يبدو أنّ الجهود السياسية والدبلوماسية، التي يقوم بها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، تحوّلت إلى حقل ألغام تحاول القوى المتشدّدة زرعها أمام سلطته التنفيذية لتنفجر به وبحكومته وإدارته السياسية. وقد زادت قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمذكّرة التنفيذية، التي أصدرها بإعادة العقوبات المتشدّدة ضدّ إيران، من تعقيدات حقل الألغام، على الرغم من بعض الإشارات الإيجابية التي جاءت في كلام ترامب والتي تركت الباب موارباً لمسار جديد من التفاوض، انطلاقاً من رؤيته القائمة على “السلام في ظلّ القوّة”.
يملك الرئيس الإيراني، مدعوماً من المرشد الأعلى، هامشاً في التعامل مع مساعي التفاوض والحوار مع الإدارة الأميركية، خاصة ما يتعلّق بإمكانية عقد لقاء ثنائي بينه وبين نظيره الأميركي، إذ سبق له أن أعطى إشارات إيجابية حول ذلك تنسجم مع ما عبّر عنه ترامب من رغبة في ذلك.
على الرغم من هذه الاشارات، إلا أنّ البدء بتطبيق المذكرة التنفيذية التي أصدرها ترامب بإعادة فرض عقوبات اقتصادية مشددة على إيران ونظامها، لم تأخذ بعين الاعتبار كل المبادرات الإيرانية التي أكّدت خلو العقيدة العسكرية الإيرانية من السلاح النووي. الأمر الذي اعتبره المرشد الأعلى تصعيداً أميركياً. وكان الدافع له للتدخل وكبح الاندفاعة الإيرانية والرسمية باتجاه الحوار مع واشنطن، وقطع الطريق على إمكانية حصول قمّة ثنائية بين الرئيسين ترامب وبزشكيان. واعتبر أنّ التفاوض واللقاء والحوار مع واشنطن في هذه المرحلة لا ينسجم مع المنطق والعقل والمصلحة.
هذا ما أعاد وضع المسار التفاوضي في حالة من التعليق بانتظار أن تعيد واشنطن والرئيس الجديد حساباتهما، وأن تبادر الإدارة الأميركية إلى سلوك مختلف يقوم على إعادة بناء الثقة والاحترام المتبادل والاعتراف بمصالح كل طرف. بما يمهّد الطريق أمام مفاوضات متكافئة في إطار مجموعة السداسية الدولية (5+1) بداية، وبعدها يكمن الانتقال إلى المفاوضات المباشرة والثنائية، لا تكون فيها طهران من موقع الضعف.
إيران قد تذهب إلى مرحلة جديدة من إعادة بناء علاقاتها الداخلية والخارجية، التي ستكون متأثّرة بطبيعة الحال بالتطوّرات التي شهدتها منطقة غرب آسيا
في موازاة العقبة التي برزت على مسار المفاوضات بين طهران وواشنطن، إلّا أنّ العقبة أمام هذا المسار تكمن على المستوى الداخلي الإيراني بعدما وجدت القوى المتضرّرة من وصول بزشكيان وخطابه التوفيقي على أساس وطني مسوّغاً لها لرفع مستوى مواجهتها له ولفريقه ولخطابه. وهو عداء لا ينطلق من خلفيّة شخصية، وإنّما تحرّكه دوافع ومصالح ومكاسب واستراتيجية ورؤية مختلفة للعمل السياسي والتنفيذي تتعارض وتتصادم مع أيّ خطاب إصلاحي أو وسطيّ أو تسوويّ أو توفيقيّ، حتى لو كان الهدف منه الحفاظ على المصالح القومية العليا وإبعاد الخطر عن إيران ونظامها وثورتها الإسلاميَّين.
لم تترك هذه القوى، خاصة الجناح المدعوم من سعيد جليلي الخاسر في السباق الرئاسي أمام بزشكيان، أيّ فرصة للنيل منه، أو وضع العراقيل أمام الحكومة الجديدة التي جاءت من خارج إرادة المحافظين بتشكيلاتهم المتشدّدة. واتّخذت من وجود وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف في موقع مساعد الرئيس للشؤون الاستراتيجيّة ذريعة لحربها ضدّ بزشكيان وفريقه وصولاً للإطاحة به إذا أمكن، أو منعه من تحقيق برنامجه السياسي والاقتصادي بالحدّ الأدنى.
مشروع بزشكيان واضح
إذا ما كان الرئيس السابق حسن روحاني قد وصل إلى الرئاسة وورث مساراً قائماً من المفاوضات السرّية الثنائية بين النظام والإدارة الأميركية، أفضى بقيادة ظريف إلى التوقيع على الاتّفاق النووي عام 2015، فإنّ بزشكيان جاء ببرنامج واضح ومباشر، لم يكن أيّ من أسلافه في رئاسة السلطة التنفيذية ليملك الجرأة والقدرة على الإفصاح عن مثيل له أو الاقتراب منه بهذه الشفافيّة والواقعيّة. ويؤكّد هذا البرنامج أنّ الطريق للخروج من الأزمات الاقتصادية والمعيشية والاختلال في الموقع السياسي في المعادلات الإقليمية والدولية للنظام وإيران، يمرّ من خلال التفاوض المباشر مع الإدارة الأميركية وإعادة تعريف العلاقة معها وحلّ كلّ الملفّات العالقة بدءاً من الملفّ النووي وصولاً إلى كلّ الملفّات السياسية والأمنيّة على المستويَين الإقليمي والدولي.
بدأ الهجوم على ظريف بشكل واسع وممنهج منذ انخراطه في الحملة الانتخابية للمرشّح بزشكيان
إلى ذلك باتت الحاجة إلى مثل هذا المسار أكثر إلحاحاً، خاصة في المرحلة الأخيرة ونتيجة التطوّرات والتداعيات التي شهدتها المنطقة والمعادلات الجيوسياسية والجيوستراتيجيّة، التي نتجت عن الأحداث في قطاع غزّة ولبنان وسوريا والعراق، والتي ستفرض على النظام وقيادته إعادة تعريف مفهوم “العمق الاستراتيجي” الذي بنى عليه نفوذه الإقليمي.
على الرغم من الموقف الواضح للمرشد الأعلى للنظام في دعم التوجّهات السياسية والاستراتيجية للرئيس بزشكيان، التي تتقدّم بالتنسيق والتخطيط معه وتحت رعايته، ومعرفة وإدراك القوى والتيّارات المتشدّدة لهذه الحقيقة، إلّا أنّها تحاول الذهاب إلى تحدّي توجّهات المرشد وشروط واشتراطات المرحلة الجديدة وتعقيداتها، من خلال رفضها التسليم بهذا المتغيّر في استراتيجية النظام وقيادته. ولم تسقط ما تملكه من أسلحة أو ما تعتقده كذلك، في حربها ضدّ إدارة بزشكيان، والعمل على إفشاله أو إجباره على اتّخاذ سياسات أكثر تشدّداً وراديكالية تنسجم مع أيديولوجيتها وعقيدتها السياسية والفكرية.
إقصاء المعارضين
لم تستطع القوى المحافظة، سواء في عهود الرؤساء السابقين، وتحديداً محمد خاتمي وحسن روحاني، التخلّي عن طموحاتها في إبعاد وإقصاء كلّ القوى والتيارات المختلفة أو المتعارضة معها. ولم تترك وسيلة لإفشال كلّ برامجها الإنقاذية والتنموية على جميع المستويات، بالإضافة إلى إفشال كلّ الجهود التي بذلت من أجل ترميم علاقات إيران مع المجتمع الدولي وخفض التصعيد وتخفيف التوتّر مع المحيط والعالم.
لا يختلف الأمر مع بزشكيان الذي رفع شعار “الوفاق الوطني” مدخلاً لشراكة جميع القوى السياسية في العملية الإنقاذية التي يسعى إليها بالتنسيق والتفاهم مع المرشد الأعلى، في ظلّ ما يحيط إيران من مخاطر لا تقتصر على التهديد الخارجي وإمكان حصول حرب إقليمية مدمّرة، بل تشمل أيضاً مخاطر الانفجار الداخلي ووقوع إيران في دائرة الفوضى وعدم الاستقرار وما تحمله من تداعيات خطيرة قد تصل إلى تهديد وحدة الأراضي الإيرانية.
يملك الرئيس الإيراني، مدعوماً من المرشد الأعلى، هامشاً في التعامل مع مساعي التفاوض والحوار مع الإدارة الأميركية
في هذا السياق، يمكن اعتبار الاستهداف المركّز الذي يتعرّض له ظريف من قبل التيّار المتشدّد في المحافظين، بخاصّة التيار المحسوب على جماعة “الثابتون – پایداریها”، بالإضافة إلى الجماعات المحسوبة على سعيد جليلي، بمنزلة الضحيّة التي يسعى هؤلاء إلى الرمي بها في وسط حقل الألغام الذي زرعوه في طريق بزشكيان والنظام نفسه.
ظريف في مرمى النّيران
لم تبدأ الحرب على ظريف نتيجة الكلام الذي صدر عنه على هامش طبيعة الأحداث الأخيرة وتغييب إيران عن توقيت عملية طوفان الأقصى، التي نسفت الجهود التي بذلتها طهران لإعادة إطلاق الحوار بينها وبين الإدارة الأميركية، بالإضافة إلى توصيف لموقف رئيس الجمهورية الذي علّق بالتنسيق مع المرشد والمجلس الأعلى للأمن القومي تنفيذ قانون الحجاب الصادر عن البرلمان، أو مستوى التداعيات التي كانت ستواجهها المنطقة وإمكان حصول حرب مدمّرة في حال وصول جليلي إلى الرئاسة.
بدأ الهجوم على ظريف بشكل واسع وممنهج منذ انخراطه في الحملة الانتخابية للمرشّح بزشكيان، ثمّ في الدور الذي لعبه في تشكيل الحكومة وتركيب فريق الرئيس السياسي والإداري، خاصة ما يتعلّق بالملفّات الدولية والحسّاسة. وهذا ما جعل هذه القوى الرافضة لدوره تعتبر سلطة بزشكيان استمراراً لعهدَي خاتمي وروحاني، وأنّ هذه الحكومة ستستغلّ ما تواجهه إيران من أزمات لفرض أجندتها السياسية على علاقات إيران الدولية والإقليمية.
سيشكّل ذلك ضربة لهذه الجماعات ولمشروعها في أن تكون هي الجهة التي تقود هذه العملية وأن تسجَّل باسمها، بحيث تكون قادرة على توظيف أيّ انفراج اقتصادي أو سياسي أو دولي في تعزيز مواقعها داخل منظومة السلطة، وأن تكون صاحبة الكلمة الفصل في رسم سياسات النظام في المرحلة المقبلة، خاصة أنّها تعيش بانتظار التداعيات السياسية التي ستشهدها إيران بعد غياب المرشد الأعلى، وحجم الدور الذي ستلعبه في اختيار المرشد الجديد.
زادت قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب والمذكّرة التنفيذية، التي أصدرها بإعادة العقوبات المتشدّدة ضدّ إيران، من تعقيدات حقل الألغام
لا يمكن اعتبار معركة استهداف ظريف والسعي إلى إخراجه من دوره والحياة السياسية والإدارية، ثأريّة بينه وبين هذه القوى ومعها جليلي، بل هي معركة تستهدف السلطة التنفيذية والخطاب التوافقي الذي يحمله بزشكيان المدعوم من المرشد الذي يدرك ويلمس مدى الحاجة إلى هذا التغيير الذي يقوده الرئيس لإنقاذ النظام.
المطلوب إضعاف بزشكيان
لهذا يعني نجاحُ هذه القوى في إبعاد وإخراج ظريف حتماً إنهاء أو إضعاف تجربة بزشكيان حتى الموت، وإعادة إيران إلى المراوحة السياسية المفتوحة حينها على جميع الاحتمالات، بما فيها العودة إلى الخطاب التصعدي والتحريضي الذي يعيد توفير الحماية لمصالح ومكاسب هذه الجماعات القريبة والبعيدة، ويسمح لها بإحكام قبضتها على مفاصل القرار السياسي والاستراتيجي بمختلف مستوياته من جديد.
إقرأ أيضاً: أحلام استعادة الدّور: الأخطاء الإيرانيّة مستمرّة
أمّا في حال فشلها، الذي يعني انتصار الخطاب المعتدل والانفتاحي، فإنّ إيران قد تذهب إلى مرحلة جديدة من إعادة بناء علاقاتها الداخلية والخارجية، التي ستكون متأثّرة بطبيعة الحال بالتطوّرات التي شهدتها منطقة غرب آسيا والمعادلات الجديدة التي طرأت عليها.