طرحت مجلّة “إيكونوميست” البريطانية، في مقالة نشرت حديثاً، سؤالاً منطقيّاً: لماذا لا يستورد المزيد من الدول الكهرباء على الرغم من الفوائد الاقتصادية والمالية الكبيرة التي يوفّرها ربط شبكات الطاقة عبر الحدود؟
هذا السؤال وثيق الصلة بلبنان، حيث استمرّت المناقشات حول استيراد الغاز الطبيعي من مصر والكهرباء من الأردن لسنوات. غير أنّ هذه المبادرات وللأسف لم تتحقّق أبداً.
لسنوات، أتقن المسؤولون اللبنانيون فنّ تفسير سبب عدم إمكان تنفيذ السياسات بدلاً من التركيز على الحلول اللازمة لتحقيقها. في غضون ذلك، لا يزال لبنان يعاني من انقطاع مزمن للتيّار الكهربائي. فقد كان من شأن الستمئة ميغاواط الإضافية الممكن استيرادها، أي ما يعادل ستّ ساعات إضافية من الكهرباء، أن تخفّف العبء على المواطنين بشكل كبير، وأن تقلّل من الاعتماد على المولّدات الخاصّة الباهظة الثمن، وتخفّف الضغط المالي على الأسر، حيث تستهلك تكاليف الطاقة جزءاً كبيراً من الدخل الشهري، وكان من شأنها أن تقلّل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
بينما أدّت عقوبات “قانون قيصر” إلى تعقيد صفقة الكهرباء بين لبنان ومصر والأردن، حيث يجب أن يمرّ الغاز والكهرباء المستوردان عبر سوريا، لعب غياب الإرادة السياسية بين النخبة الحاكمة في لبنان لتنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها في قطاع الكهرباء، دوراً لا يقلّ أهمّية، إن لم يكن أكثر أهمّية، في إهمال المشروع.
اتّساع الفجوة الإقليميّة
كانت المنطقة العربية في العقود الأخيرة مسرحاً لتباعد اقتصاديّ صارخ. تفوّقت دول مجلس التعاون الخليجي في النموّ الاقتصادي ومؤشّرات التنمية والابتكار، في حين تخلّفت دول عربية أخرى عن الركب. لا يوجد مكان تظهر فيه هذه الفجوة أكثر من سوريا ولبنان.
لسنوات، أتقن المسؤولون اللبنانيون فنّ تفسير سبب عدم إمكان تنفيذ السياسات بدلاً من التركيز على الحلول اللازمة لتحقيقها
كان البلدان تاريخيّاً مترابطين بشكل عميق، وإن لم يكن ذلك دائماً للأسباب الصحيحة. ففي الفترة بين عام 1990 واغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في عام 2005، مارس نظام الأسد هيمنته على لبنان. ومنذ عام 2011، عانى لبنان من الآثار الجانبية للحرب السورية، وخاصة تدفّق اللاجئين. وفي الوقت نفسه واصلت إيران ووكلاؤها زعزعة استقرار البلدين وتشويه الأنشطة الاقتصادية الرسمية، واستنزاف المؤسّسات، وتقويض سيادة القانون.
بصيص من الأمل وسط الأزمة؟
أدّت التطوّرات الأخيرة في سوريا ولبنان إلى تجدّد التفاؤل بأنّ مساراتهما قد تتغيّر. رحّب المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول العربية والغربية، بتغيير النظام في سوريا وانتخاب جوزف عون رئيساً للجمهورية، كما وتكليف نوّاف سلام تشكيل حكومة وقوبلت هذه التحوّلات السياسية بوعود بتقديم الدعم لإطلاق عمليّات التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار التي طال انتظارها.
مع ذلك، حجم التحدّي هائل. تقدّر تكلفة إعادة بناء سوريا وحدها بما يراوح بين 250 مليار دولار و400 مليار دولار. ووفقاً لدراسة حديثة أجرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، انكمش الناتج المحلّي الإجمالي السوري بنسبة 64 في المئة منذ بدء الحرب في عام 2011. وفقدت الليرة السورية حوالي ثلثي قيمتها مقابل الدولار في عام 2023، فارتفع التضخّم إلى ما يقدّر بنحو 40.2 في المئة في عام 2024. وفي الوقت نفسه لا تزال البلاد تخضع لعقوبات شديدة، ومدرجة في القائمة السوداء ماليّاً، وتعتمد على المساعدات، حيث يحتاج 16.7 مليون سوري إلى المساعدة، ويواجه أكثر من نصفهم انعدام الأمن الغذائي.
أدّت عقوبات “قانون قيصر” إلى تعقيد صفقة الكهرباء بين لبنان ومصر والأردن، حيث يجب أن يمرّ الغاز والكهرباء المستوردان عبر سوريا
من جهته، لا يزال لبنان في خضمّ أزمة متعدّدة الأوجه تتّسم بالانهيار المالي، والجمود السياسي، وارتفاع مستويات الفقر، والوجود المطوّل للّاجئين السوريين، وأخيراً الصراع المدمّر مع إسرائيل. وقد أثّرت هذه التحدّيات بشكل عميق على سكّان البلاد واقتصادها وبنيتها التحتيّة. ووفقاً للبنك الدولي، انكمش الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي في لبنان بنسبة 27 في المئة بين عامَي 2019 و2023، بينما تضاعفت معدّلات الفقر بأكثر من ثلاثة أضعاف على مدار العقد الماضي، ووصلت إلى 44 في المئة من السكّان. وتقدّر الخسائر والأضرار الناجمة عن الحرب الأخيرة بنحو 8.5 مليارات دولار، أي ما يقرب من 50 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي.
خطّة مارشال أخرى؟
تثير التحدّيات الملحّة التي تواجه سوريا ولبنان أسئلة مفصليّة تتّصل بكيفية هيكلة عمليات الإغاثة والتعافي وإعادة الإعمار، وتثير بالقدر نفسه من الأهمّية السؤال عن كيفية تمويل هذه العمليات. واليوم يعيش هذان البلدان حالة مماثلة لحالة أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، عندما تمّ وضع خطّة مارشال*. سيكون من الخطأ الفادح لسوريا ولبنان أن يتنافسا بشكل منفصل على المساعدات المالية وأموال إعادة الإعمار.
وفقاً للدراسة نفسها التي أجرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، إذا حقّقت سوريا الاستقرار، فمن المتوقّع أن يزيد الناتج المحلّي الإجمالي للأردن ولبنان مجتمعين بمقدار 0.6 مليار دولار في عام 2025، وبمقدار 1.8 مليار دولار في عام 2026، وذلك إلى حدّ كبير بسبب التوسّع التجاري. وهذا يسلّط الضوء على الاعتماد الاقتصادي الإقليمي المتبادل والفوائد المحتملة لجهود التعافي المنسّقة.
مع ذلك، لا بدّ من معالجة أسئلة وجوديّة أعمق: إذا كان النظام السوري الجديد ملتزماً حقّاً التحوّل بنسبة 180 درجة نحو اقتصاد يقوده القطاع الخاصّ، فما هو التأثير الذي قد يخلّفه هذا التحوّل البنيوي على لبنان؟
تثير التحدّيات الملحّة التي تواجه سوريا ولبنان أسئلة مفصليّة تتّصل بكيفية هيكلة عمليات الإغاثة والتعافي وإعادة الإعمار
تاريخيّاً، كان النموذج الاقتصادي اللبناني يتشكّل من خلال الديناميّات الإقليمية. فقد أدّت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 إلى إعادة توجيه تدفّقات التجارة والنقل من حيفا إلى ميناء بيروت، في حين أدّت سياسات التأميم في سوريا والعراق ومصر إلى تحويل لبنان إلى مركز للخدمات المالية والسياحة والاستثمار العقاري. ونظراً للتحوّلات العميقة التي تحدث في سوريا، هل يكون من الحكمة أن يحاول لبنان إحياء النموذج الاقتصادي نفسه؟ أم يجب عليه أن يتكيّف مع هذه التغييرات ويعيد اكتشاف ميزته النسبية في مشهد اقتصادي إقليمي جديد؟
خارطة طريق للازدهار المستدام
لا يحتاج لبنان وسوريا إلى الدعم المالي لإعادة الإعمار فحسب، بل إلى استراتيجية إنمائية شاملة لوضعهما على طريق الازدهار المستدام. ويجب أن يكون الهدف الأساسي إعادة دمج هذين البلدين في النظام الاقتصادي الدولي، وكسر أنماط التجارة غير المشروعة، وغسل الأموال، وشبكات الابتزاز التي ازدهرت بسبب غياب الحكم الفعّال.
إقرأ أيضاً: عون – سلام: الفشل لم يعد خياراً…
إنّ اتّباع مقاربة مشرقية تربط سوريا ولبنان للأسباب الصحيحة وتنسجم مع النظام الاقتصادي العربي والدولي الأوسع نطاقاً، سيكون ضروريّاً وحاسماً لضمان تحرّر البلدين من دورات الصراع وعدم الاستقرار والضائقة الاقتصادية. وحينها فقط يمكنهما أن يأملا تحقيق التعافي الاقتصادي الطويل الأمد، وجذب الاستثمارات، وتوفير مستقبل لمواطنيهما يتجاوز البقاء على قيد الحياة وحسب.
*خطّة مارشال هي خطّة اقتصادية أُطلقت بمبادرة من وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال في عام 1947، من أجل مساعدة البلدان الأوروبية على إعادة إعمار ما دمّرته الحرب العالمية الثانية وبناء اقتصاداتها من جديد، وذلك عبر تقديم هبات عينيّة ونقدية، بالإضافة إلى حزمة من القروض الطويلة الأمد.
* باحث وأكاديمي لبناني.