لقمان سليم قضيّة حق

مدة القراءة 6 د

أربع سنوات مرّت على اغتيال الصحافي والناشط والمثقّف وصاحب المشروع التنويري، لقمان سليم (مواليد 1962) المعروف بمعارضته الشديدة لـ”الحزب”. أربع سنوات والقتلة “الصغار”، كما وصفتهم شقيقته الكاتبة رشا الأمير، يسرحون ويمرحون فيما “معلّموهم قُتلوا تحت الأرض”. أربع سنوات لم يكلّ أصدقاء وعائلة ومحبّو هذا الرجل المنقِّب في طبقات التاريخ، والباحث الذي لم يتعب من نبش أرشيف الذاكرة الجماعية اللبنانية وجرائم الحرب الأهلية ومخطوفيها ومعتقليها في السجون السورية، التي وثّقها في دفاتر مشروعه البحثي “أمم” وفي أفلام وثائقية مثل “تدمر” مع شريكة حياته مونيكا بورغمان… ولم يتعبوا من المطالبة بالعدالة ومحاسبة الجناة الذين قتلوا شخصية عامّة شيعية معارِضة، لبنانية مواطنيّة بامتياز، كوزموبوليتيّة، وعربيّة الهوى والهويّة.

 

لقمان هو حامي اللغة العربية الذي أتقن اللعب في تعرّجاتها، لأنّه ألسُنيّ وعلّامة، وصانع بلاغة ولغة متماسكة تتبدّى بوضوح في نصوصه الطويلة. ومنذ ظهوره كاتباً ومثقّفاً في ثمانينيات القرن الماضي و”رجل نهضة”، كما وصفه حازم صاغية، كان لقمان يقدّم إشارات لا تنتهي إلى معرفته العميقة بالتراث العربي والثقافة العربية. فهو نشر تراثاً مستنيراً للشيخ عبدالله العلايلي، ووصل العلايلي بتراث طه حسين وكتاب “في الشعر الجاهلي”. وقد حرّك مياهاً كانت راكدة ليس في صناعة النشر فحسب، بل في صناعة الإبداع والتفكير. كان لقمان من أوائل مَن أفسحوا المجال للأفكار المدنية لتنمو وتتطوّر وتؤثّر.

أربع سنوات ولا تزال “دار الجديد” للنشر التي أسّسها مع أخته رشا ومؤسّسة “أمم للأبحاث والتوثيق” ودفاتر “هيّا بنا”، تعمل وتنبض بالحياة. أربع سنوات انتصر فيها فكر لقمان التنويري على الشمولية وعلى الطغيان والأنظمة الاستبدادية (على رأسها المشروع الإيراني والأسدي)، التي لم يحاربها بالسلاح ولا بالقتل بل بالكلمة والتوثيق والدعوة إلى المصارحة والمصالحة الحقيقية غير القائمة على دفن العصبيّات والحقائق، بل على الحقيقة. أربع سنوات كُشف فيها القاتل ودُفِن مشروعه، فيما مشروع لقمان صار غاراً يحتفى به وبذكراه بالحبّ واللقاء والحوار والأدب ونبذ العنف، وجوائز توزّع باسمه لصحافيين وكتّاب يناضلون من أجل كشف الحقيقة والنبش في التاريخ والسياسة، وتكملة مشروع بدأه لقمان ورفاقه لتأسيس بلد مبنيّ على الحقّ والعدل والمساءلة وعدم دفن الماضي.

ليس رمزاً بل قضيّة

هذا العام كان غار لقمان سليم من نصيب الصحافية صبحية نجار على سلسلة أفلامها الوثائقية القصيرة “قتلة بلا حساب” التي عرضت على موقع “رصيف 22”. عمل دؤوب مشبع بقصص إنسانية مع أهالي ضحايا قتلة كثر، منهم لقمان الذي صام القضاء اللبناني 4 سنوات ليُصدر عشيّة اغتياله قراراً سياسيّاً مريباً ومستغرباً بإغلاق ملفّ الاغتيال الصارخ وتسطيره ضدّ مجهول!

اعتبرت نجّار أنّ “هذه الجائزة ليست لي وحدي، بل لكلّ من يؤمن أنّ العدالة لا تموت. الصحافة الحرّة لا تُغتال ولا تسقط”. وأضافت: “في لبنان، حيث تغيب العدالة، ويصبح الإفلات من العقاب القاعدة بدل الاستثناء، حاولنا أن نسلّط الضوء على هذه الظاهرة القاتلة من خلال سلسلة الأفلام القصيرة “قتلة بلا حساب”، سلسلة لم تكن توثيقاً وحسب، بل صرخة في وجه الظلم، ومحاولة لكسر الصمت، وسرد القصة من زاوية إنسانية، بعيداً من الأرقام الجافّة والتقارير الرسمية”.

أمّا الغار الثاني فناله عن جدارة الكاتب البريطاني آليكس راويل عن كتابه “بالروح بالدم، الناصرية ومواريثها”. وقال رويل إنّه “شرف أن أُكَرَّم باسم الصديق لقمان، الذي كان وسيبقى عنواناً للشجاعة، الفكرية كما الجسدية، ورمزاً لحرّية الرأي والتفكير المستقلّ، لِحَقِّ النقد والاختلاف… ورمزاً للبحث والتوثيق، لجَمْعِ الأدلّة والمعلومات، لصَون الذاكرة، وللثقافة والأدب والنَشْر،… لقمان ليس رمزاً فحسب، وإنّما هو قضيّة تعني فَضْحَ المسؤولين عن الظلم ومُحاسَبتَهم”.

لقمان سليم

ضغوط سياسيّة

عائلة سليم وأصدقاؤه وكثير من السياسيين والناشطين الحقوقيين والمثقّفين الذين حضروا ليلة الاحتفال بذكرى لقمان وليس بموته، ندّدوا بقرار قاضي التحقيق الأوّل بالإنابة في بيروت بلال حلاوي. اعتبروا أنّ هدف القرار إقفال الملفّ وحماية المجرمين الذين خطّطوا لخطف وتصفية لقمان.

أكّدت أرملته مونيكا بورغمان أنّ التحقيق جمع كلّ العناصر الضرورية، وبينها مقاطع مصوّرة التقطتها كاميرات مراقبة وتحليل للحمض النووي، باستثناء أسماء القتلة”. وهو ما يُناقض ما قاله حلاوي من “عدم توافر أدلّة عن هويّة مرتكبي الجريمة لتوقيفهم وسوقهم للعدالة”.

من المؤكّد أنّ حلاوي “خضع لضغوط سياسية وتجاهل كلّ المذكّرات التي قدّمت له، ورفض التعاون الدولي في هذا المجال”، بحسب بورغمان.

“الحزب” هو القاتل

لكنّ الدكتور مكرم رباح صديق لقمان الصدوق والشاهد على تهديدهما المباشر قبل الاغتيال، لم يخَف من الاعتراف بتسمية القاتل علناً: “اجتمعنا اليوم على اغتيال لقمان، على إيد مجموعة من القتلة، من الخارجين عن المحبّة والإنسانية، الذين يسمّون أنفسهم “الحزب”، وبعضهم بأسماء أخرى مثل البعث و”أحزاب البراميل المتفجّرة”.

لبنان لقمان ولبنان قاتليه

لا يشبه لبنانُ لقمان لبنانَ القَتلة. تقول رشا الأمير: “لم ينتصروا بل ماتوا ولم يستطيعوا بناء بلاد… هم قتلوه بستّ رصاصات جبن وبغضاء، القَتلة الصغار أدوات، والكبار ماتوا تحت الأرض، لكنّ لقمان بنى وهو نقيضهم، فمن المستحيل أن ينتصروا لأنّ البشر ولدوا للبُنيان والحبّ والتكاثر وليس للحرب الأبديّة”.

إقرأ أيضاً: زوجة لقمان سليم: القضاء يفتي بسيادة القاتل

الفوارق بين اللبنانين، كما قال حازم صاغية في كلمته أمس، “لبـنـان لـقمـان ولـبـنـان قـاتـلـيـه، أكثر من أن تُعَدّ… فالأوّل، المُنشدّ إلى مثالات وعوالم، صاحبُ موقف نقديّ من الذات، يدرك قصورها، وبكثير من التواضع يتعلّم ساعياً لأن يسدّ نقصه بما امتلأ به سواه”. وأمّا الثاني، بحسب صاغية، “لا يكفّ عن الاحتفال بنفسه، وهو شديد الاعتداد بالقليل الذي فيه، وهو يؤسّس كماله المزعوم على زعم إلهيّ مطلق… إذا كان لبنان الأوّل يستقبل ويرحّب، فالثاني يغتال أو يفجّر أو، في حالات الرحمة، يخطف… ولئن أصرّ الأوّل على أن يفكّر كما يريد، طالبه الثاني بأن يفكّر كما يُراد”.

مواضيع ذات صلة

الحرب الإسرائيليّة مستمرّة… بوتيرة مختلفة

الثلاثاء 18 شباط هو موعد انتهاء المهلة الممدّدة للانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان تطبيقاً لاتّفاق وقف إطلاق النار. ولكنّ هذا الانسحاب خضع لمفاوضات شرسة قامت…

اشتباك قبل الثقة بين الحزب و”الرئيسين”!

يتّجه المشهد الأمني إلى مزيد من التأزّم مع توجّه الحكومة اللبنانية إلى تظهير موقفها رسمياً، بإعلان حظر هبوط الطائرات الإيرانية في مطار بيروت. الأهمّ، إصرار…

متى يصارح “الحزب” بيئته بأنّ موازين المنطقة تغيّرت؟

فيما يبدو الجنرال الأميركي جاستين جيفرز واضحاً في كلامه عن بقاء إسرائيل في المواقع الخمسة، تبدو طريق المطار أكثر تفجّراً من الجنوب المحتلّ، وما بينهما…

الشعب الأردني يكبح ترامب: نرفض تهجير الفلسطينيّين

ماذا حملت زيارة العاهل الأردنيّ عبدالله الثاني لواشنطن؟ وكيف سيواجه الأردن مخطّط ترامب للسيطرة على غزّة وتهجير سكّانها؟   عكس وجه العاهل الأردني عبدالله الثاني…