تحوّلات الشّرق الأوسط: السّعوديّة تتقدّم كلّ الصفوف (2/2)

مدة القراءة 8 د

سيكون عام 2025 عام إيران لجهة الترتيب الافتراضي (الصفقة الممكنة) مع دونالد ترامب، أو لجهة تصفية الحساب من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدعم واشنطن أو شراكتها، مستنداً إلى إنجازات إسرائيل، ومتباهياً بتغيير وجه الشرق الأوسط كما وعد مراراً.

 

يشهد نظام طهران، الذي تتضاءل شعبيّته، مرحلة انتقالية صعبة: فالمرشد علي خامنئي يبلغ من العمر 85 عاماً ويعاني مرض السرطان. وأخيراً فقدت إيران نظام الأسد، واهتزّ وضع حماس وتراجعت مكانة “الحزب”. تفكّك حزام الميليشيات العربية الموالي لطهران تحت مسمّى “محور المقاومة”، وتبيّن أنّ الغرض الرئيسي لهذا المحور لم يكن الدفاع عن القضية الفلسطينية، بل إنّ أولويّته كانت حماية النظام الإيراني وبرنامجه النووي.

بعد المواجهتين المحدودتين مع إسرائيل، وحروب محور طهران الإقليمي، برز الضعف العسكري والتكنولوجي للإيرانيين، ولذا تزداد الشكوك في اقتراب إعلان صناعة سلاح نووي، وهو ما سيشكّل تحدّياً استراتيجيّاً ويفتح احتمالات الحرب، وسيتوقّف أيّ قرار على ترامب “ملك الصفقات” الذي يمكن أن يكون رئيساً محارباً على عكس وعوده الانتخابية.

بعد المواجهتين المحدودتين مع إسرائيل، وحروب محور طهران الإقليمي، برز الضعف العسكري والتكنولوجي للإيرانيين

بدأ العدّ العكسي لأن تحسم إيران خياراتها باتّجاه تقديم تنازلات لواشنطن يبشّر بها فريق الرئيس مسعود بزشكيان (ومساعده محمد جواد ظريف) تتمثّل في الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة والانسحاب من الإقليم مقابل الحفاظ على النظام والبرنامج النووي السلميّ. لكنّ التيّار المتشدّد يراهن على استعراض منشآت صواريخه والمعاهدة الاستراتيجية الموقّعة في السابع عشر من كانون الثاني الحالي مع روسيا على الرغم من الخيبة السورية (علماً أنّها لا تنصّ على الدفاع العسكري المشترك كما حال معاهدة موسكو وبيونغ يانغ) من أجل الاستمرار في اختبار القوّة مع واشنطن.

زمن تركيا؟

تبعاً لذلك، يعتبر بعض المراقبين أنّه مقابل أفول “الحقبة الإيرانية” نشهد بدء “زمن تركيا”. لكنّ كلّ شيء نسبي وقابل للتغيير في رمال الشرق الأوسط المتحرّكة. كانت إيران تتباهى بالسيطرة على أربع عواصم عربية، والآن أخذت تخسر “رهاناتها” إلى حدّ أنّ ما استثمرته في سوريا على مدى نصف قرن أصبح هباء منثوراً خلال أحد عشر يوماً.

في سياق مماثل، تبسط تركيا رعايتها أو نفوذها في دمشق وطرابلس الغرب وباكو عاصمة أذربيجان، وبينما راهن المشروع الإيراني على “إحياء الإمبراطورية الفارسية” وتوحيد المسلمين والمستضعفين تحت لافتة العداء لإسرائيل وتقييد النفوذ التركي ‏وضرب أو احتواء المنافسين المحتملين من الدول العربية في المنطقة، يبدو المشروع التركي المستند في عمقه إلى “إرث الإمبراطورية العثمانية” ونوع من “الإسلامويّة التوافقية” متمتّعاً بالمرونة. ومن الملاحظ أنّ تركيا تعمل على التوفيق بين الطموحات الأوروبية، وتعزيز مكانتها المحورية داخل حلف شمال الأطلسي، وتعاون حسن الجوار مع روسيا وأوكرانيا، والتفاهم مع الأقطاب العرب وإيران.

مع التراجع الإيراني، سيجد الأتراك والإسرائيليون أنفسهم‏ قريباً أمام واقع جديد

مع التراجع الإيراني، سيجد الأتراك والإسرائيليون أنفسهم‏ قريباً أمام واقع جديد. ومن غير المستبعد أن تخشى إسرائيل من تداعيات الهيمنة التركية في سوريا بديلاً للسيطرة الروسية – الإيرانية. لكن لا يلغي التنافس أو المخاوف في بعض المجالات (موقف إردوغان من القضية الفلسطينية أو رفض تركيا التوسّع الإسرائيلي) التفاهمات ضمن الحلف الغربي الأوسع بين البلدين، أو في بعض النواحي مثل أذربيجان حيث تتقاطع مصالحهما.

في مقاربة جيوسياسية أشمل، سيؤدّي تفكّك الشرق الأوسط والنكسة الروسية في سوريا إلى إعادة توجيه الانتباه على المدى المتوسّط ​​نحو الشمال والشرق: البحر الأسود، القوقاز، وآسيا الوسطى. وهذا سيعني احتدام الصراعات في مناطق وسط العالم (الشرق الأوسط وأوراسيا).

في قلب المعادلة الاستراتيجية المرتسمة وإعادة تركيب الشرق الأوسط يبرز الدور السعودي الوسطيّ المؤثّر.

السّعوديّة ودورها المحوريّ

في مواجهة تسلسل الأحداث منذ التطبيع السعودي – الإيراني في آذار 2023، وتداعيات السابع من أكتوبر وتتمّاته، تبيّن بجلاء أنّ الدبلوماسية السعودية واقعية وقابلة للتكيّف، إذ تبقى الأولوية بالنسبة للرياض استعادة الاستقرار الإقليمي الذي يخدم مصالحها الوطنية، مع تركيزها على تنفيذ خطّة التحديث والتنويع الاقتصادي (رؤية 2030). من أجل تحقيق هذا الهدف، لم تغلق الرياض الباب كلّياً أمام الجهود الأميركية للتطبيع المستقبلي مع إسرائيل، مشترطة ربطه بتبنّي أفق واضح لحلّ الدولتين وإنصاف الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه طوت الرياض صفحة المواجهات، سواء مع منافستها إيران أو مع تركيا اللاعب الإقليمي الآخر.

نجاح التحوّل السياسي في سوريا سيكون، في نظر الرياض، ضماناً للاستقرار الإقليمي

داهمت أحداث السابع من أكتوبر الإقليم، واتّضحت هشاشة ترتيب وضع المنطقة بعد موجات الاحتجاج في 2011 وما تلاها، وبعد اتّفاقات السلام في عهد ترامب الأوّل. هكذا تهدّد الاستقرار والتنمية الاقتصادية المنشودة. وزاد ذلك من التحدّيات أمام المملكة العربية السعودية الطامحة للعب دور الريادة عربياً وإسلامياً، وكانت الخلاصة أنّ الأولويّة ليست للاقتصاد على السياسة، وأنّ الاستقرار صعب المنال في منطقة تقع بين فكّي كمّاشة مشاريع إمبراطورية وصراعات اللعبة الكبرى بسبب موقعها الجيوسياسي ومواردها وحجمها في سوق الطاقة العالمي. من هنا أخذت الرياض تعمل على تأقلم سياساتها مع الوضع المستجدّ، إلى جانب طرح التساؤلات عن أساليب التعامل مع المتنافسين الإقليميين ومع القوى العالمية الكبرى، وفي طليعتها الولايات المتحدة، ضمن نهج تعزيز الاستقلالية وتنوّع الشركاء.

لكن نظراً للعلاقة المميّزة التي نسجتها مع دونالد ترامب وعلى الرغم من بعض التباينات، من الطبيعي أن تأمل القيادة السعودية أن يساعد ذلك على تشكيل توازن جديد في الشرق الأوسط لغير مصلحة الخصوم الإقليميّين للمملكة ومحاولاتهم فرض الهيمنة.

في إطار تشكيل المشهد الإقليمي وتسارع الأحداث في لبنان وسوريا، يبرز دور الرياض في مواكبة تطوّر الوضع في البلدين. وكان من اللافت الإسهام السعودي في انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان ضمن اللجنة الخماسية أو على شكل ثنائي. وأعلن الرئيس اللبناني الجديد جوزف عون أنّ السعودية ستكون أوّل مقصد له في زياراته الخارجية “إيماناً بدور المملكة التاريخي في مساندة لبنان والتعاضد معه”. ومع تسمية القاضي نوّاف سلام رئيساً للوزراء في 13 الشهر الحالي، زاد الأمل باستعادة بناء الدولة اللبنانية، وهذا يتيح بناء علاقة سليمة بين بيروت والرياض.

في متابعة للمتغيّرات الإقليمية، نلمس أيضاً التوجّه السعودي من أجل إعادة تأهيل سوريا لتكون بلدا آمناً مستقرّاً وقادراً على النهوض من آثار الحقبة السابقة.

يبقى الفصل الجديد من “اللعبة الكبرى” غامضاً يتّسم بعدم اليقين كما العادة في الشرق الأوسط الذي يكذب أو يتحدّى التوقّعات

في البداية تعاملت الرياض بحذر مع الزعيم السوري الجديد أحمد الشرع، المدعوم من تركيا وقطر. لكنّ أداء الحكم السوري المؤقّت وتركيزه على أولويّة المصلحة السورية، دفعت الرياض لتبنّي نهج آخر تمثّل في مؤتمر الرياض الإقليمي – الدولي (12 كانون الثاني) الذي مثّل تحوّلاً في المقاربة العربية والدولية تجاه سوريا مع تباين بين الدعم العربي غير المشروط والموقف الغربي المشترط إجراء إصلاحات سياسية من أجل تخفيف العقوبات.

الغموض سيّد الموقف

إنّ نجاح التحوّل السياسي في سوريا سيكون، في نظر الرياض، ضماناً للاستقرار الإقليمي. وتهدف الرعاية السعودية – العربية إلى درء مخاطر محتملة يمكن أن تواجه المملكة العربية السعودية وحلفاءها العرب: انتعاش الإرهاب، الاستفراد التركي بالنفود، ومشاريع تفتيت سوريا.

في الخلاصة، ستتّجه الأنظار إلى أداء إدارة ترامب في عدّة ملفّات حسّاسة: البرنامج النووي الإيراني، الملفّ الفلسطيني (مستوى العلاقة مع نتنياهو والمقاربة السعودية)، المرحلة الانتقالية في سوريا والصلة مع تركيا (مستقبل “قسد” وشمال شرق سوريا) والتنافس حول الأسواق في ضوء انضمام دول حليفة لواشنطن في الإقليم إلى “بريكس”.

هكذا يبقى الفصل الجديد من “اللعبة الكبرى” غامضاً يتّسم بعدم اليقين كما العادة في الشرق الأوسط الذي يكذب أو يتحدّى التوقّعات.

إقرأ أيضاً: تحوّلات الشّرق الأوسط: إيران المهزومة وتركيا المتوثّبة (1/2)

مواضيع ذات صلة

الدّولة الضّعيفة والتّوتّر الشّيعيّ: مَن يستوعب مَن؟

بالإعاقات على طريق مطار رفيق الحريري، والصرخات الطائفية في كلّ مكان، بدأ أسبوع الحكومة الجديدة الثاني. وما وجد رئيس الحكومة نوّاف سلام حلّاً إلّا في…

“الحزب” ولبنان: خطايا العجز عن التّحوّل

عاب الأمين العامّ لـ”الحزب”، الشيخ نعيم قاسم، على الحكومة اللبنانية عدم سماحها للطائرة الإيرانية الآتية من طهران بالهبوط في مطار رفيق الحريري في بيروت. كانت…

واشنطن وطهران تتبادلان الاختبارات في لبنان

لا يزال لبنان صندوق بريد بين أميركا وإيران. أظهرت واقعة منع طائرة إيرانية من الهبوط في مطار بيروت، وردّة فعل “الحزب”، أنّه يبقى ساحة صراع…

النّاسخ والمنسوخ في تصريحات خلف الحبتور

عندما فتح المسلمون مصر، أتى أهلها عمرو بن العاص فقالوا: “أيّها الأمير، لِنيلِنا هذا سُنّة لا يجري إلّا بها”. قال: “وما ذاك؟”. قالوا: “إذا كانت…