تحوّلات الشّرق الأوسط: إيران المهزومة وتركيا المتوثّبة (1/2)

مدة القراءة 6 د

تميّزت سنة 2024 بزيادة الصراعات والحروب في سياق التحوّلات الحادّة في الشرق الأوسط، تتمّةً لتداعيات السابع من أكتوبر ومحاولة لرسم مشهد إقليمي جديد. لقد عكست دينامية التصعيد توازن القوى الاستراتيجي، وأظهر الانهيار السريع للنظام السوري الضعف الهيكليّ لإيران، وتأكّد الغلبة الإسرائيلية وبروز الدور التركي في اختبار سياسي مفتوح في بلاد الشام. 

إزاء الفصل الجديد من “اللعبة الكبرى” الذي سيحتدم على الأرجح في عهد ترامب الثاني، ستمهّد تغييرات وانقلابات 2024 المسالك لرصد وبلورة اتّجاهات وآفاق المرحلة المقبلة.

 

بعد قرن على وعد بلفور وعلى إبرام اتفاقية سايكس – بيكو التي رسمت حدود كيانات جديدة منبثقة من وراثة السلطنة العثمانية، وفي خضمّ مخاض التحوّلات العربية أو مسار التفكيك والفوضى التدميرية الذي بدأ منذ أواخر 2010، تبلورت سيناريوهات الخلاصة المتوقّعة لصراعات الربع الأوّل من هذا القرن التي أدّت إلى انهيارات في الدول الوطنية المركزية، خاصة أنّ العالم العربي بدا بمنزلة “الرجل المريض” في هذه الحقبة.

لم تقتصر دوافع المواجهات في شرق المتوسّط والخليج العربي على العوامل الجيوسياسية وموارد الطاقة فحسب، بل شملت العوامل القومية والمذهبية وصراعات النفوذ في عباب البحر الهائج في الشرق الأوسط. ولذا اصطدمت بمصالح الدول الكبرى والإقليمية في سياق “اللعبة الكبرى” الجديدة في القرن الحادي والعشرين (على مثال “اللعبة الكبرى” التي كانت نزاعاً سياسياً ودبلوماسياً ظلّ قائماً معظم القرن التاسع عشر بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية حول أفغانستان والأقاليم المجاورة في وسط وجنوب آسيا).

من الإشارات المعبّرة عن هذا التحوّل الإقليمي انعقاد اجتماع عربي إقليمي دولي كبير في الرياض في 12 كانون الثاني

ابتدأ الفصل الأوّل من “اللعبة الكبرى” الحديثة انطلاقاً من سوريا في منتصف عام 2011، وأسفر عن غلبة للمحور الإيراني الذي عزّز وضعه عطفاً على حرب العراق في 2003، التي قادت إلى تهميش النظام الإقليمي العربي وصعود ثلاث قوى غير عربية: إيران، إسرائيل وتركيا، ومنذ 2015 تعزّز موقع إيران.

أمّا الفصل الثاني الذي ابتدأ في السابع من أكتوبر 2023 فقد قاد إلى التحوّل الكبير في سوريا ولبنان وفلسطين. ومنذ كانون الأول 2024 نشهد بدايات الفصل الجديد الذي سيمتدّ على الأرجح في 2025 نحو إيران ويمكن أن يؤدّي إلى بلورة وترسيخ واقع استراتيجي جديد.

ضرب المحور الإيرانيّ

ردّاً على قيام طهران بتحريك جبهات الإسناد ضمن مبدأ “وحدة الساحات” دعماً لغزّة، اعتبرت إسرائيل أنّها تواجه حزاماً ناريّاً في سبع جبهات. من هنا، توالت منذ ربيع العام الماضي الاستهدافات ضدّ الجمهورية الإسلامية في إيران ومحورها الإقليمي، بدءاً بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق، إلى اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وصولاً إلى منعطف “البيجرز” في أيلول الماضي، والحرب العنيفة ضدّ “الحزب” وتصفية كوادره وقياداته وعلى رأسهم أمينه العامّ حسن نصرالله الذي تسلّم قيادة المحور الإيراني بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني في 2020، وتوّج الاستهداف بتحوّل الثامن من كانون الأوّل 2024 المتمثّل بسقوط النظام السوري الذي كان الجوهرة على تاج المشروع الإمبراطوري الإيراني وممرّه إلى البحر الأبيض المتوسط.

تميّزت سنة 2024 بزيادة الصراعات والحروب في سياق التحوّلات الحادّة في الشرق الأوسط، تتمّةً لتداعيات السابع من أكتوبر

في ما يتعدّى إسقاط منظومة الأسد المتجذّرة، أحدث التغيير السوري تحوّلاً عميقاً وضع حدّاً لتوازنات قائمة منذ السيطرة على حلب في 2016. جرّاء التغيير السوري، كانت هزيمة إيران “كارثية”، وهي التي استثمرت أكثر من خمسين مليار دولار في محاولة “الاستحواذ على سوريا”. أمّا خسارة روسيا فكانت نسبية إلى حدّ أنّ طهران وأوساطها اتّهمتها بالتنسيق مع أنقرة ومعاقبة بشار الأسد الذي رفض نصائحها بضرورة تلبية المطالب العربية والانفتاح على أنقرة وتقديم تنازلات من أجل الحلّ السياسي، ووصل الأمر بأحد جنرالات “الحرس الثوري” الإيراني الزعم أنّ نظام الأسد سقط بفعل “خيانة روسيّة”.

الشرق الأوسط

بدا واضحاً من تسلسل الأحداث، بدءاً من “الوفاة الغامضة” للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى اغتيال هنية ونصرالله والسنوار، وفرار بشار الأسد، أنّ المحور الأميركي – الإسرائيلي اتّخذ قراراً بإنهاء عهد الأذرع والميليشيات، وتفكيك المحور الإيراني وفرط عقده.

يطرح كلّ ذلك تساؤلاً: هل دقّت الساعة من أجل تأسيس نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، وحجز الأمكنة فيه أو استمرار الصراع لتحسين المواقع أو دخول أطراف جديدة؟ من الخلاصات الأوّلية ترسيخ وضع إسرائيل، تقوية موقع تركيا، وانخراط المملكة العربية السعودية في إعادة تركيب النظام الإقليمي، وأخيراً خسارة إيران للعديد من أوراقها وبقاؤها قطباً من أقطاب الإقليم سيتوقّف على قرارات ترامب الثاني.

من الإشارات المعبّرة عن هذا التحوّل الإقليمي انعقاد اجتماع عربي إقليمي دولي كبير في الرياض في 12 كانون الثاني لمواكبة المرحلة المقبلة في سوريا، وكان اللافت المشاركة التركية والغياب الإيراني. وقبل ذلك جرى انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للبنان بعد طول انتظار، وأتى اختيار الدكتور نوّاف سلام لرئاسة الحكومة إلى جانبه دليلاً على ارتدادات زلزال “الفصل الجديد” من “اللعبة الكبرى”.

ردّاً على قيام طهران بتحريك جبهات الإسناد ضمن مبدأ “وحدة الساحات” دعماً لغزّة، اعتبرت إسرائيل أنّها تواجه حزاماً ناريّاً في سبع جبهات

السعودية نواة النظام الجديد..

يمرّ الشرق الأوسط بإعادة تشكيل، إذ إنّ هناك صورة استراتيجية جديدة آخذة في الظهور، وخريطة القوّة تتغيّر، مع الفائزين والخاسرين، والعديد من الأشياء المجهولة وقليل من الاستمرارية.

إقرأ أيضاً: بعد التحوّل السّوريّ: مفاجأة تركيّة – مصريّة في ليبيا؟

تغيّر الترتيب في الثلاثي الإقليمي، فحلّت تركيا محلّ روسيا وإيران في سوريا. وأسفرت مواجهات السنتين الأخيرتين عن غلبة إسرائيلية على إيران ومحورها. وبينما يستمرّ التراجع السياسي للقوى العربية القديمة: مصر، العراق وسوريا، يبرز مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية نواة لنظام عربي متجدّد، متمتّعاً بعناصر قوّة الثروة والعصرنة والنفوذ. هكذا تتّضح خريطة القوّة من خلال علاقات أو تجاذبات الثلاثي الإسرائيلي – التركي – الإيراني، بالإضافة إلى الدور السعودي الذي سيتصاعد على الأرجح خلال عهد ترامب الثاني.

 

* في الجزء الثاني غداً: تحوّلات الشّرق الأوسط: السّعوديّة تتقدّم كلّ الصفوف (2/2).

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري.. وكأنّه الوداع الأخير

انتهت الحريرية السياسية يوم اغتيال رفيق الحريري، وكلّ زعم بعد ذلك هو من قبيل النهل من الميراث. لم يخرج تعبير “الحريريّة” إلّا بعد غياب صاحبها….

تلك الأيّام في بيروت

عند العاشرة صباحاً، دخلت قصر بعبدا لأوّل مرّة في حياتي، لأسلّم الرئيس إميل لحّود رسالة من ياسر عرفات، وكان معي سفيرنا في الأردن السيّد عطا…

رفيق الحريري حاول “أنسنة” الضّباع

“سَئِمْتُ تَكالِيفَ الحَياةِ وَمَنْ يَعِشْ * ثَمانينَ حَوْلاً لَا أَبَا لَكَ يَسْـــــأَمِ رَأَيْتُ المَنايَا خَبْطَ عَشْواءَ مَنْ تُصِبْ * تُمِتْهُ ومَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ وأَعْلَمُ…

السّعوديّة مظلّة العرب: يلوذون بها كلّما أمطرت

لم تعد المملكة العربية السعودية “قبلة المسلمين” فقط، بل هي “قبلة العالم”. كلّ الأنظار تتّجه إليها. كلّ المواقف تُبنى بناء على مواقفها. هي الخيمة التي…