لم تكد إسرائيل تُطفئ محرّكات حروبها في لبنان وقطاع غزّة وجنوب سوريا، حتّى أشعلت جبهة أخرى في الضفّة الغربيّة، فتحوّلت الضفّة من “جبهة ثانوية” إلى “جبهة أساسيّة”.
قبل 7 أيّام بدأ الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن الدّاخلي (الشاباك) عمليّة عسكريّة في محافظة جنين ومخيّمها تحت اسم “السّور الحديدي”.
على وقع معركة الضفّة الغربيّة، يتحضّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لزيارة العاصمة الأميركيّة للقاء الرئيس دونالد ترامب بعد أيّام قليلة. فماذا يحصل في الضفّة؟
دائماً ما كانت الضفّة الغربيّة مصدر قلق أساسيّاً لتل أبيب. فهي على الرّغم من تركيزها في السّنة الأخيرة على حربها على قطاع غزّة و”الحزب” في لبنان، إلّا أنّها كانت دائماً ما تخشى أن يكونَ مصدر الخطر الأساسيّ من الشرق، أي الضفّة الغربيّة.
قبل السّابع من أكتوبر، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليهدّد علناً باغتيال نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري لانخراطه في دعم الفصائل والمسلّحين في الضفّة الغربيّة. وبعد سقوط كلّ قواعد الاشتباك بين إسرائيل ومحور إيران من غزّة إلى لبنان وصولاً إلى إيران، نفّذ نتنياهو تهديده مطلع عام 2024 واغتال العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت.
كان اغتيال العاروري يومذاك رسالةً حاسمة من نتنياهو بأنّه لن يتركَ ملفّ الضفّة الغربيّة. لكنّه في الوقتِ عينه يريدُ أن ينزعَ أيّ قدرة لحركتَيْ حماس والجهاد الإسلاميّ ومن خلفهما إيران على تهديد المستوطنات الإسرائيلية في الضفّة الغربيّة، من دون أن يكونَ ذلك على حسابِ ترسيخ السيطرة في الضفّة الغربيّة للسّلطة الفلسطينيّة.
لم تكد إسرائيل تُطفئ محرّكات حروبها في لبنان وقطاع غزّة وجنوب سوريا، حتّى أشعلت جبهة أخرى في الضفّة الغربيّة
الاستثمار في الشّرخ الفلسطينيّ
كانَ نتنياهو ووزراء من حكومته قد عبّروا صراحةً عن رفضهم أن يكونَ للسّلطة الفلسطينية أيّ دورٍ في إدارة قطاع غزّة بعد الحرب. وهذه المعادلة يريدها الإسرائيليّون أيضاً في الضفّة الغربيّة. وهذا يفسّر إطلاق إسرائيل عمليّة “السّور الحديدي” بدءاً من جنين ومخيّمها بعد أيّام من بدء الأجهزة الأمنيّة الفلسطينية عمليّة “حماية وطن” لتفكيك بعض الجماعات التي تعتبرها خارجة عن القانون، وأكثرها ينضوي تحت مسمّى “المقاومة” ويتلقّى دعماً ماليّاً من إيران لفرض سلطة أمرٍ واقعٍ في الضفّة وجعلها ساحةً وفق نظريّة “وحدة السّاحات” التي أسّسها الجنرال الإيراني قاسم سليماني، وباتت مصدرَ تهديدٍ للسّلم الأهليّ في الضفّة الغربيّة.
الحالات التي كانت تواجهها السّلطة الفلسطينية هي منظّمات عسكريّة لا تتبنّى شعاراً فصائليّاً مثل الفصائل الفلسطينية المعروفة، مثل “كتيبة جنين” و”عرين الأسود” و”كتيبة طولكرم” و”كتيبة طوباس”.
كانت السّلطة قد نجحت قبل السّابع من أكتوبر في تفكيك “عرين الأسود” في نابلس، وصادرت مئات آلاف الدولارات وأسلحة أكثرها من مصادر إسرائيلية.
كانت عملية “حماية وطن” من الأسباب التي عجّلت في إطلاق إسرائيل عمليّتها العسكريّة، وذلك في محاولة للإبقاء على حالة الشّرخ الفلسطيني وإبقاء مناطق في الضفّة خارج سيطرة السّلطة. وهذا يساعدُ تل أبيب على ترويج سرديّة الخطر الآتي من الضفّة الغربيّة في إطار الإجراءات التي تتّخذها حكومة بنيامين نتنياهو وتحالفه مع وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش لضمّ الضفّة إلى السيادة الإسرائيلية.
كسر قواعد الاشتباك
لكنّ عملية إسرائيل في الضفّة لها دوافع وعوامل أخرى أدّت إلى إطلاقها، وهي:
- تعتبر تل أبيب أنّ الظّرف السّياسيّ بات متاحاً للسيطرة التدريجيّة على مناطق الضفّة الغربيّة، خصوصاً مع وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة، ومسارعته إلى رفع العقوبات عن مستوطنين ومنظّمات إسرائيليّة متطرّفة، كانت قد فرضتها إدارة الرئيس السّابق جو بايدن بسبب اعتداءات مجموعات المستوطنين على المدنيين الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة.
- عجّل سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا وسيطرة إسرائيل على المنطقة العازلة وقمم جبل الشّيخ ذات الأهميّة الاستراتيجية في إطلاق العمليّة. إذ كان الجنوب السّوريّ يعتبر المحطّة الأبرز لإيران لنقل السّلاح والأموال إلى الضفّة الغربيّة. وبعد سيطرة إسرائيل على جبل الشّيخ بات يمكن اعتبار هذه الطّريق مقطوعة بشكلٍ كامل.
- استطاعت حكومة نتنياهو تحييد أيّ خطر كان يشكّله “الحزب” في لبنان على أيّ عمليّة في الضفّة الغربيّة، التي كانت ساحة العمل الأساسي لإيران و”الحزب” في الفترة التي سبقت السّابع من أكتوبر 2023. كما أنّ اتّفاق وقف إطلاق النار في غزّة يرفع بنسبة كبيرة عدم مشاركة حركة “حماس” في تحريك جبهة القطاع.
- باتَت أحزاب اليمين الدّيني أكثر دفعاً نحو التصعيد العسكريّ في الضفّة الغربيّة بعدما كانوا يرفضون أيّ وقفٍ لإطلاق النّار في غزّة. ولذا بات نتنياهو مضطرّاً إلى إطلاق العمليّة للحفاظ على تماسك الائتلاف الحكوميّ بعد انسحاب تكتّل “عظمة يهوديّة” بقيادة إيتامار بن غفير، وذلكَ ليضمنَ بقاء سموتريتش داخل الحكومة.
كسرت إسرائيل قواعد الاشتباك القائمة في الضفّة الغربيّة منذ أكثر من 20 عاماً، فاستعملت الطائرات الحربيّة والغارات من الطائرات المسيّرة والآليّات العسكريّة الثّقيلة في استهداف المجموعات الفلسطينية في مناطق محافظة جنين.
يؤكّد هذا أنّ العمليّة العسكرية الإسرائيليّة لن تبقى محصورة بمناطق جنين، ولن تكون قصيرة المدى، وستنتقل إلى مناطق أخرى في الضفّة بعد الانتهاء من العمل في المحافظة.
تنتظر الضفّة الغربيّة اللقاء المرتقب بين نتنياهو ودونالد ترامب في البيت الأبيض في الرّابع من شباط المقبل
ترامب وكلمة الفصل
كان لافتاً أنّ إسرائيل لجأت في عمليّتها إلى السّياسة نفسها التي اعتمدتها في قطاع غزّة لجهة تدمير البنى التحتية وإخلاء المواطنين من منازلهم. وتزامنت العمليّة مع تشدّد غير مسبوق في الإجراءات الأمنيّة الإسرائيليّة حول مدن وبلدات وقرى الضفّة الغربيّة لعزل مناطق العمليّات عن أيّ منطقة أخرى. ومنذ السّابع من أكتوبر 2023، زادت تل أبيب البوّابات الحديدية والحواجز لقطع أوصال الضفّة حتى بلغ عددها 898 بوّابة وحاجزاً، 18 منها ركّبتها قوّات الاحتلال منذ مطلع العام الجاري. وهو ما يكشف حقيقة النوايا الإسرائيلية لقضم الضفّة الغربيّة منطقة تلو أخرى.
إقرأ أيضاً: اتفاق غزّة: ترامب “يقفل” ملفّ الشّرق الأوسط…
تنتظر الضفّة الغربيّة اللقاء المرتقب بين نتنياهو ودونالد ترامب في البيت الأبيض في الرّابع من شباط المقبل. فهناك سيحملُ نتنياهو ملفّاته ومخطّطاته، بدءاً من التعامل مع البرنامج النووي الإيرانيّ وصولاً إلى حلمه بضمّ “يهودا والسّامرة”.
لكن في الوقت عينه يصعب التكهّن إن كان سيجاريه ترامب بكلّ ما يريد. فالرئيس الأميركيّ اليوم قد يكون مختلفاً عن نسخة 2016، خصوصاً أنّ الدّستور الأميركي لا يتيح له الترشّح لولاية ثالثة. وقد يجد نفسه في حلٍّ من تأثير اللوبي الصهيوني إلى حدٍّ ما. ويريد ترامب صراحةً توسعة اتفاقات السّلام بين تل أبيب وعواصم عربيّة، وهو يدركُ أنّ هذا الهدف دونه عقبة أساسيّة اسمها بنيامين نتنياهو، ومطلب العرب تحقيق حلّ الدولتين.
لمتابعة الكاتب على X: