تأثرت الهويّة العالمية لـ”الحزب”، بتبنّي مبدأ ولاية الفقيه والتبعيّة لهذه الرؤية، التي استطاعت إقامة حكومة إسلامية في سياق نظرية التمكين، أو ترجمة المساعي للوصول إلى السلطة لتحقيق وإقامة الحكم الإسلامي وتطبيقه في تحكيم الشريعة الإسلامية في المجتمعات.
هذه الرؤية والمتبنّيات الفكرية والعقائدية والأيديولوجية، شكّلت الخلفيّة الأساسية للشعار الذي رفعه المؤتمر التأسيسي لـ”الحزب” في شباط عام 1985. ويعني أنّه يمثّل أمّة تسعى إلى إقامة الثورة الإسلامية في لبنان: “الحزب، الثورة الإسلامية في لبنان”. ولم يغب عن الخطابات والمواقف لقيادات هذا “الحزب” في تلك المرحلة التاريخية، سعيه وعمله من أجل إقامة “جمهورية إسلامية في لبنان” على غرار الجمهورية الإسلامية في إيران، وتكون جزءاً من ولاية الفقيه المتمثّلة في الإمام الخميني.
لم يكن المسار الاندماجي بين قيادة “الحزب” ونظريّة ولاية الفقيه صعباً أو معقّداً، نتيجة خلفيّته المرتكزة على نشاط وعضويّة القيادات الأولى المؤسّسة في حزب “الدعوة”، لأنّ هذه القيادات، وفي مقدَّمها الشيخان صبحي الطفيلي ومحمد يزبك، والتي تصدّرت المشهد في تلك المرحلة، إلى جانب الناطق الرسمي لـ”الحزب” السيّد إبراهيم أمين السيّد، تبنّت الرؤية التي دعت إلى حلّ حزب “الدعوة” والاندماج مع ولاية الفقيه والتي حقّقت ما تسعى إليه من إقامة الحكم الإسلامي.
التقت مع هذه الجماعة في تبنّي هذه الرؤية، وأن يكون الحزب الجديد على الساحة الإسلامية اللبنانية عاملاً في إطار ولاية الفقيه وقيادة الخميني، قيادات متأثّرة بحزب “الدعوة” كالسيّد عباس الموسوي، وقيادات آتية من حركة “أمل” كالسيّد حسن نصرالله، ومعهم بعض المدنيين أمثال محمد ياغي (أبو سليم الذي انتخب نائباً في البرلمان عام 1992).
لم يكن المسار الاندماجي بين قيادة “الحزب” ونظريّة ولاية الفقيه صعباً أو معقّداً
فتح باب الطموح الإيراني
بعض هذه القيادات ارتضت الانضمام إلى هذه الرؤية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، في حين كانت لا تقبل أو تتبنّى مبدأ ولاية الفقيه. إلّا أنّ التطوّرات التي حصلت وبداية تشكّل العمل المقاوم ضدّ الاحتلال، والمبادرة الإيرانية إلى دعم هذه المقاومة من خلال توظيف الوجود العسكري لعناصر من المتطوّعين الإيرانيين في سوريا ولبنان، الذين جاؤوا للمشاركة في القتال ضدّ إسرائيل، وتحويل مهمّتهم إلى تدريب القوى اللبنانية بعدما رفض الإمام الخميني الانخراط الإيراني في هذه الحرب معطياً الأولوية للحرب مع العراق، بالإضافة إلى صعوبة الدعم اللوجستي والإمداد لهذه القوّات جوّاً، علاوة على رفض الأسد… فتح الباب أمام هذا الطموح الإيراني لحسابات واعتبارات خاصّة بنظامه.
انضمّ إلى هذه القيادات شخصيات تنتمي إلى حزب “الدعوة” أيضاً، إلّا أنّها لم تكن ترى الذهاب إلى الاندماج مع ولاية الفقيه والتجربة الإيرانية، لكنّها في الوقت نفسه لم تكن في موقع المعارض لهذه التجربة. وهو موقف كان نتيجة طبيعية لتعدّد التوجّهات داخل حزب “الدعوة”، وتنبيهاً إلى بناء علاقة تكاملية مع التجربة الإيرانية مع الاحتفاظ بخصوصية تحافظ على تجربتهم والتراكم الذي حقّقوه.
لذلك كانت أقرب في موقفها الفكري والعقائدي وحتى السياسي إلى السيّد محمد حسين فضل الله الذي كان في تلك المرحلة جزءاً من مجلس فقهاء حزب “الدعوة” والمرشد الروحي لهذا التيّار من حزب “الدعوة” على الساحة اللبنانية بكلّ عناوينه.
يمكن الحديث عن أنّ بين أبرز الشخصيّات التي قد تُحسب على هذا التيّار، الأمين العامّ الحالي لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم ومعه رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” البرلمانية محمد رعد. وهما جاءا مع آخرين إلى “الحزب” من حزب “الدعوة” واتّحاد الطلبة المسلمين الذي يعتبر أحد عناوين نشاط حزب “الدعوة” على الساحة اللبنانية. وهو الأمر الذي سمح لفضل الله أن يلعب دوراً محوريّاً داخل صفوف “الحزب” في البدايات، قبل قرار حسم الخيارات وإنهاء حالة التعدّدية في التوجّهات وتحويل “الحزب” إلى تشكيل إيراني صافٍ يتبع مباشرة الوليّ الفقيه ويلتزم بقراراته وأوامره.
القرار الإيراني بإنهاء تعدّدية التوجّهات داخل صفوف “الحزب” كان وراء الحملة القاسية التي تعرّض لها فضل الله في تسعينيات القرن الماضي
إنهاء تعددية التوجهات
القرار الإيراني بإنهاء تعدّدية التوجّهات داخل صفوف “الحزب” كان وراء الحملة القاسية التي تعرّض لها فضل الله في تسعينيات القرن الماضي، والتي أنهت أيّ مصادر نفوذ له داخل صفوف “الحزب”، ودفعت القيادات والشخصيات المتردّدة بين ولائها للرؤية التي يمثّلها فضل الله وبين ولائها لـ”الحزب”، إلى حسم موقفها والانتقال إلى الرؤية الاندماجية في ولاية الفقيه والنظام الإسلامي في إيران، وصولاً إلى منع تقليده في المسائل الدينية والشرعية بين أعضاء “الحزب” وقياداته والانتقال إلى تقليد المرشد الأعلى السيّد علي خامنئي.
كانت فترة تولّي السيّد إبراهيم أمين السيّد لموقع الناطق الرسمي باسم “الحزب” مرحلةً تأسيسيةً مفتوحةً على جميع الاتّجاهات، سمحت لعدد كبير من أصحاب التوجّهات المختلفة لعب دور قيادي في “الحزب”، سواء أولئك الآتون من منظّمات فلسطينية، خاصة حركة فتح والكتيبة الطلابية، أو التشكيلات الإسلامية التي كانت ناشطة على الساحة الشيعية قبل عام 1982 كلجان العمل الإسلامي وغيرها.
إلا أنّ مرحلة الأمين العامّ الأوّل الشيخ صبحي الطفيلي كانت بمنزلة مرحلة بلورة الشخصية السياسية والعقائدية والقتالية لـ”الحزب”، خاصة أنّ هذه المرحلة شهدت سلسلة من الصراعات الداخلية، لا سيما داخل البيئة الشيعية مع حركة أمل، إضافة إلى تكريس فردانيّة “الحزب” في العمل المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، والتأسيس لمرحلة جديدة من التعاون مع النظام السوري بقيادة حافظ الأسد.
مرحلة التأسيس الدموي التي قادها صبحي الطفيلي انتهت بتسوية سوريّة – إيرانية انعكست على العلاقة بين “الحزب” وحركة “أمل” بقيادة الرئيس نبيه بري
مرحلة التأسيس الدموي التي قادها صبحي الطفيلي انتهت بتسوية سوريّة – إيرانية انعكست على العلاقة بين “الحزب” وحركة “أمل” بقيادة الرئيس نبيه بري، على مبدأ تقاسم الأدوار، بحيث يتولّى الرئيس برّي قيادة العمل السياسي داخل الدولة في ما يتعلّق بالدور والحصّة الشيعيَّين، ويتولّى “الحزب” حصراً العمل العسكري والمقاوم ضدّ الاحتلال. وتكون دمشق هي المرجعية السياسية لهذه المقاومة مع تولّي طهران الدعم والتدريب والتجهيز والتمويل.
بعد هذا الاتّفاق كان لا بدّ من الانتقال إلى مرحلة التهدئة، التي اقتضت التخلّي عن الطفيلي وفتح الطريق أمام وصول السيّد عباس الموسوي عام 1991، الذي جاء إلى الأمانة العامّة من موقع في قيادة الجنوب حيث يتولّى الإشراف على نشاط المقاومة، إلّا أنّ اغتياله في شباط 1992 كان نقطة تحوّل في مسيرة “الحزب” مع وصول السيّد حسن نصرالله إلى الأمانة العامّة.
إقرأ أيضاً: في تحوّلات “الحزب” وبداياته “الدعووية”(1/3)