اللّبنانيّون و”الحزب”: معك ضدّ إسرائيل… وضدّ السّلاح

مدة القراءة 8 د

بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، ربّما توقّع اللبنانيون أن يعتذر “الحزب” عن ذهابه بعيداً في إدخال البلد حرباً من أجل “وحدة الساحات”. هذا لم يحصل. ما حصل أنّ “الحزب” راح يضخّ سيلاً من “المظلوميّة” في الإعلام، مدّعياً أنّ العمل السياسي، والحكومي تحديداً، هو لإقصائه عن المشاركة في السلطة، علماً أنّ الخلاف بين اللبنانيين و”الحزب” هو على إيجاد قاسم مشترك غير السلاح. ذلك أنّ “الحزب” يتمسّك بسلاحه، واللبنانيون يعارضونه في ذلك. لم يحدث أن وقع خلاف بين اللبنانيين وبين “الحزب” إلّا على استخدام السلاح في الداخل. الخلاف بين الاثنين لم يكن يوماً على قتال إسرائيل.

 

لائحة اتّهام “الحزب” للبلد وأهله بمحاولة الإقصاء لا تقول شيئاً جديداً، لكنّها توحي بأشياء. والإيحاء فيه شيء خطير يلامس تهديد البلد واستقراره لأنّه يتضمّن الكثير من الترميز والغمز بتحريك البيئة على الضدّ من الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي سيلجه لبنان إثر انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية، وتسمية القاضي نوّاف سلام رئيساً للحكومة. و”الحزب” في الحالتين كان متحفّظاً، فهو لم يشارك في انتخاب رئيس الجمهورية في الدورة الأولى، ولم يُسمّ في الأساس والأصل القاضي سلام لرئاسة الوزراء.

بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، ربّما توقّع اللبنانيون أن يعتذر “الحزب” عن ذهابه بعيداً في إدخال البلد حرباً من أجل “وحدة الساحات”

يقول التشهير السياسي الذي يعتمده “الحزب” إنّ الأخير يريد بلداً على قياسه وبما يتلاءم مع وظيفته الأصلية بوصفه فصيلاً إيرانياً لا تربطه بلبنان وأهله إلّا وجوده في البلد. صُوره الراهنة والماضية لا تشتقّ إلّا من الحرب الأهلية التي نشأ في ظلالها منذ ثمانينيات القرن الماضي. هذه الصُوَر لا تتناسل إلّا من حرب أهلية، ولا تنتج إلّا رثاثة أنتجها التصدّع اللبناني المُزمن، سواء في الحرب أو بعد إقرار الطائف وتحت الهيمنتين السورية ثمّ الإيرانية.

لبنان المتصدّع سلماً وحرباً لا يكاد يخرج من أزمة حتّى يدخل في أخرى. والغالبيّة من هذه الأزمات هي صنيعة “الحزب” وقراره التمسّك بسلاحه وتوجّهه إلى فرض وقائع غريبة على البلد وأهله. والتصدّع لا يشي إلّا بالارتداد إلى ما قبل إقرار اتّفاق الطائف، أي إلى مرحلة كانت كتابة تاريخ البلد من اختصاص التوتّر واحتراب العصبيّات الأهلية.

فجأة صار “الحزب” حريصاً على الديمقراطية والعيش المشترك، وهو لا يطيق معارضة له داخل الطائفة الشيعية، ولا حتى على مساحة لبنان، وكان يتفاخر بذلك. وفجأة أيضاً صار مع عبارتَي “العيش المشترك” و”الوطني” ويتفاخر بهما من على منابر المؤسّسات السياسية والدستورية، أي من بعبدا ومجلس النواب، مع الإيحاء بأنّ الاختلاف معه قد يدفع البلد إلى أزمة “ميثاقية” حدودها التوتّر العامّ وربّما الفوضى السياسية. وهذا ممّا لا شكّ فيه أنّه من التهافت وضعف الحجّة ويسلب منه ومن “سلاحه ومقاومته” شيئاً من الهيبة التي صارت مفقودة.

لبنان المتصدّع سلماً وحرباً لا يكاد يخرج من أزمة حتّى يدخل في أخرى. والغالبيّة من هذه الأزمات هي صنيعة “الحزب”

وقائع انقلاب “الحزب” على الدّولة

إذا صحّ في الوعي الأهلي الشيعي أنّ “الحزب” يتنكّب مشقّة قتال إسرائيل لحقبة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، ولما بعد “الوعد الصادق” عام 2006، فإنّ الأصحّ هو أنّ لبنان سيرة مُعقّدة، تتأرجح بين تكوينات طائفية لبست لبوس التأرجح بين يمين ويسار، وبين غوايتَي الشرق والغرب. والسويّة السياسية الآن هي في معاينة “الحزب” بتواريخ انقلابه على لبنان وعلى الشرعية الدولية.

بعد “انتفاضة الاستقلال” التي انطلقت إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وخروج الجيش السوري في عام 2005، اختطف “الحزب” في 12 تموز 2006 جنديّين إسرائيليّين بعد الخطّ الأزرق واندلعت ما سُمّيت بـ”حرب تموز”، وانتهت الحرب في 14 آب 2006 (بعد دمار كلّف لبنان مليارات وحوالي 2,000 شهيد في شهر) بقرار صادر عن مجلس الأمن رقمه 1701، وشكّل انتصاراً دبلوماسياً وسياسياً حقّقته الحكومة آنذاك. وهدف القرار كان عودة الحكومة اللبنانية لتحمّل مسؤوليّة ضبط الحدود مع إسرائيل من خلال نشر الجيش اللبناني مدعوماً من قبل قوّات متعدّدة الجنسيّات.

رتّب القرار مسؤوليّة سياسيّة كبيرة ودقيقة على الدولة اللبنانية، خصوصاً بعد غياب الدولة عن الحدود منذ عام 1969، أي منذ اتّفاق القاهرة الذي سمح لمنظّمة التحرير الفلسطينية باستخدام أرض الجنوب منطلقاً للأعمال الفدائية نحو إسرائيل.

تعاقب على الحدود بعد خروج منظّمة التحرير من لبنان (عام 1982) على إثر اجتياح إسرائيل لبنان وصولاً لبيروت، نفوذ الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وبعد 2005 إيران بواسطة “الحزب”. أي منذ عام 1969 تحكّمت منظّمة التحرير ثمّ السوريون ثمّ الإيرانيون بالحدود مع إسرائيل. وقد أتى القرار 1701 محاولةً سياسية دولية لضبط الحدود بعد غياب الدولة 37 عاماً عن القيام بواجبها.

وافق “الحزب” على وقف إطلاق النار، وسرعان ما ارتدّ على القرار ساعياً إلى عودة إيران إلى الحدود

سيرة “الحزب” وحروبه

وافق “الحزب” على وقف إطلاق النار، وسرعان ما ارتدّ على القرار ساعياً إلى عودة إيران إلى الحدود. ثمّ ما لبث أن اجتاح ساحة رياض الصلح وحاصر بالخيم والاعتصامات مقرّ الحكومة التي يرأسها الرئيس فؤاد السنيورة واستمرّ بالاغتيالات.

في كانون الثاني 2007 حاول الحزب بالتعاون مع حلفائه، “التيار الوطني الحر” و”تيار المردة”  وبعض الأطراف في بيروت، قطع الطرقات والضغط على السنيورة للاستقالة. وحصلت أحداث دموية في جبيل ومنطقة الجامعة العربية في بيروت.

ثمّ أتت ساعة حركة “فتح الإسلام” في مخيّم نهر البارد لإحراج الجيش اللبناني، ورسم “الحزب” خطّاً أحمر، محذّراً الجيش من دخول المخيّم. حينها أعطت الحكومة اللبنانية غطاء سياسياً للجيش الذي انتصر بعد أشهر من القتال.

استمرّ “الحزب” بالاغتيالات حتى 7 أيار 2008 يوم انقلابه على الحكومة واجتياح بيروت والشوف لإخضاع الزعيم الدرزي ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي آنذاك وليد جنبلاط وزعيم “تيار المستقبل” سعد الحريري، وحيّد المناطق المسيحية بطلب من العماد ميشال عون الذي انتُخب رئيساً للجمهورية بعد الأحداث ومؤتمر الدوحة، الذي عُقد في قطر. وقد شكّل اتّفاق الدوحة انقلاباً على الطائف والدستور، وكان بمنزلة “اتفاق القاهرة” الجديد، أي تنازلت الدولة عن سيادتها من أجل سلاح إيران هذه المرّة.

انتصرت قوى “14 اذار” التي نشأت بعد اغتيال الرئيس الحريري في انتخابات 2009، وعمل الرئيس سعد الحريري للوصول إلى القصر الحكومي. لكن انقلب “الحزب” وحلفاؤه على حكومة سعد الحريري في عام 2010 بعدما استقال وزراء ميشال عون و”الحزب” وحركة “أمل” ثمّ ما لبثت أن انطلقت الثورة السورية في عام 2011 ودخل الحزب القتال في سوريا آخر عام 2012 تحت أعين الجيش ومن دون موافقة الغالبية من اللبنانيين.

لم يحدث أن وقع خلاف بين اللبنانيين وبين “الحزب” إلّا على استخدام السلاح في الداخل

بعد اغتيال الوزير محمد شطح على بعد أمتار من بيت الرئيس سعد الحريري، انقلبت قوى “14 آذار” على موقف الأخير، الذي قبل بالمشاركة مع “الحزب” في حكومة على الرغم من قتاله في سوريا، وتولّى تشكيلها ثمّ رئاستها الرئيس تمام سلام.

سيطرته على لبنان

في الأثناء، حصل الاتّفاق الأميركي ـ الإيراني في عام 2014 وسقطت حلب، آخر معقل للمعارضة السورية في سنة 2015، وتمّ انتخاب ميشال عون رئيساً في العام التالي، أي في 2016. توافقت غالبية الكتل النيابية على ميشال عون، كلّ لأسبابه الخاصة، إنّما النتيجة كانت موصوفة. هكذا تسلّم “الحزب” الجمهورية عبر حليفه ميشال عون الذي أفسح له المجال للتحكّم بالبلد من دون أيّ رادع داخلي.

إقرأ أيضاً: لبنان ضحيّة المحاور المتحاربة… ماذا عن الحياد؟

أُقرّ قانون انتخابي جديد مخالف للدستور أدخل النسبية إلى الواقع الانتخابي مع وجود السلاح، وهو ما قدّم خدمة نوعية وكبيرة لـ”الحزب”، الذي من خلال النسبية دخل كلّ الطوائف وحمى طائفته بسلاحه.

خلال كلّ هذه السنوات تمّ تفريغ المحكمة الدولية الخاصّة باغتيال الرئيس رفيق الحريري من مضمونها، وهو ما أعطى “الحزب” حرّية التحرّك أكثر وأكثر. لذلك تسلُّم “الحزب”، أي إيران، الحكم في لبنان أدّى إلى حرب المساندة في تشرين الأوّل من عام 2023 وصولاً إلى ما وصلنا إليه اليوم. وهذا ما سوف يطيل المسافة التي سيضطرّ اللبنانيون عموماً إلى عبورها وسط غابة من الصراعات على لبنان وفيه.

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

عصر “مقاومة ترامب”!

ماذا سيفعل دونالد ترامب بالعالم، وبالمنطقة، وبنا؟ سؤال “المليار دولار” الضاغط على عقول حكّام وأنظمة العالم منذ أن أُعلن فوز الرجل بمنصب الرئاسة. هذا السؤال…

ماكرون يستعجل لحجز موقع في دمشق

يسعى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى تحقيق نجاحات في السياسة الخارجية تعوّضه النكسات المتلاحقة في البيت الداخلي. فاز الرجل بالرئاسة لولايتين. استفاد دائماً من حشد…

خطّة ترامب الغزّيّة: لعبة قمار أم روليت روسيّة؟

لا يعرف دونالد ترامب فلسطين. لا يدرك أنّ دعوته للفلسطينيّين إلى الرحيل الطوعي عن قطاع غزّة والضفّة الغربية ستزيدهم عناداً وتمسّكاً بأرضهم. حرب الإبادة الجماعية…

سيكون على إيران القبول بحكومة نوّاف سلام!

في النهاية، سيشكّل نوّاف سلام حكومة يبدو لبنان في حاجة إليها أكثر من أي وقت. مثل هذه الحكومة ضرورة ملحّة أقلّه في ضوء ما يحدث…