تشكّلت الكتلة الحاملة لمشروع المقاومة الإسلامية في لبنان، أمّة “الحزب”، في بداية التشكيل بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، من مجموعة روافد وأشخاص كانوا منضوين تحت عناوين وتجمّعات مختلفة ومتنوّعة. بعضها لم يكن يحمل هويّة دينية أو طائفية. وقد ضمّت هذه الروافد أشخاصاً ناشطين في حركة “فتح” الفلسطينية، وقيادات في حركة “أمل” – أفواج المقاومة اللبنانية، ويساريّين عادوا من أحزابهم ذات الهويّة العابرة إلى طائفتهم. فكيف كانت تلك البدايات؟ وكيف صارت أحوال “الحزب”؟
بعد المؤتمر التأسيسي وإعلان تشكيل تنظيم “الحزب” في الرسالة المفتوحة، التي صدرت في السادس عشر من شهر شباط عام 1985 وتلاها السيّد إبراهيم أمين السيّد الآتي من حركة “أمل”، باعتباره أوّل ناطق رسمي باسم “الحزب”… شكّلت الشريحة القادمة من تشكيلات إسلامية – شيعية محلّية أو ذات هويّة إسلامية عابرة، الجزء الأساس والأكثر فعّالية وتأثيراً في هذا المشروع، مثل لجان العمل الإسلامي، التي كانت على تقارب وانسجام مع التنظيم الشعبي اللبناني الذي أعلن انحلاله مبكراً.
هذه اللجان نسجت علاقات مبكرة مع قيادات وأطراف إيرانية فاعلة في الحراك الذي قاده الإمام الخميني زعيم الثورة ومؤسّس الجمهورية الإسلامية. بالإضافة إلى شخصيّات فاعلة وقيادية في حركة “أمل”، كما هو الحال مع الأمين العامّ الثالث لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله، وحتّى الأمين العام الحالي الشيخ نعيم قاسم، الذي نشط في مرحلة من نشاطه السياسي في إطار الحركة قبل أن يعود إلى قواعده الفكرية التي جاء منها إلى الحركة و”الحزب” على حدّ سواء.
كانت الهويّة العابرة العامل المشترك الذي جمع بين كلّ الأشخاص، الذين شكّلوا الكتلة الحاملة الأولى لهذا المشروع
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القواعد المقاومة، التي شكّلت الذراع العسكري لـ”الحزب” تحت مسمّى “المقاومة الإسلامية”، جاءت من مشارب مختلفة ومتنوّعة ومتعدّدة، أو من حواضن نشطت في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي من تنظيمات فلسطينية أو يسارية لبنانية. بالإضافة إلى انحياز جزء كبير من قواعد حركة “أمل” وانضمامها إلى هذا “الحزب” وجسمه العسكري، الذي بدأ في تلك المرحلة يأخذ شكلاً منظّماً وهرمية صلبة خاضعة لمنظومة قيادة وسيطرة وآليّات قيادية صارمة. بالتوازي مع تحشيد عقائدي مختلف ينسجم مع الهويّة العقائدية العابرة للجغرافيا والأوطان، في إطار العالميّة الإسلامية بقيادة “ولاية الفقيه”، قدّمته الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني.
العودة لفهم الأحوال
أمّا لماذا العودة إلى هذا الاستعراض التاريخي، الذي قد يكون صادقاً على جانب من جوانب التأسيس، وقد يقبله “الحزب” وقد يرفضه، فتأتي في سياق محاولة فهم الأحوال التي طرأت على قيادة هذا “الحزب” بعد خسارته لأمينه العامّ نصرالله، وتولّي الشيخ نعيم قاسم هذه القيادة في هذه المرحلة الدقيقة والمفصلية من حياة هذا “الحزب”. وما يعنيه ذلك من آليّات تعامله مع التطوّرات والتحوّلات السياسية على الساحتين اللبنانية والإقليمية.
كانت الهويّة العابرة العامل المشترك الذي جمع بين كلّ الأشخاص، الذين شكّلوا الكتلة الحاملة الأولى لهذا المشروع، علاوة على قدرتهم على الانسجام مع الرؤية الإيرانية أو القبول بمبدأ ولاية الفقيه كمرجعية دينية فقهية وسياسية ومظلّة شرعية لكلّ الأفعال والأنشطة التي تقوم بها. بالإضافة إلى ضمان استمرارية الدعم المادّي والمعنوي واللوجستي باعتبارهم جزءاً من مشروع أممي أوسع وأشمل في سياق السعي إلى إقامة الحكومة الإسلامية العالمية.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القواعد المقاومة، التي شكّلت الذراع العسكري لـ”الحزب” تحت مسمّى “المقاومة الإسلامية”، جاءت من مشارب مختلفة
هذه الهويّة الإسلامية العابرة، أو الأمميّة الإسلامية التي هيمنت على الرؤية التأسيسية لـ”الحزب”، كانت على نحو مباشر، متأثّرة بتبنّي مبدأ ولاية الفقيه، التي مثّلها زعيم الثورة الإيرانية ومؤسّس النظام الإسلامي الإمام الخميني. إلّا أنّ خلفيّة الكتلة أو المجموعة الأولى الحاملة لهذا المشروع، لم تكن بعيدة عن هذه الهويّة العابرة، نتيجة انتمائها لحزب “الدعوة” الذي نشأ في حضن الحوزة العلمية الدينية الشيعية في مدينة النجف الأشرف وحول مرجعية وقيادة السيّد محمد باقر الصدر عام 1953.
تأثر حزب “الدعوة” بـ”الأخوان”
تمثّلت الهويّة العابرة لحزب “الدعوة” حينها في إنشاء فروع بين مختلف الجماعات الشيعية في العالم، خاصة في العالم العربي ومجتمعاته، وشملت هرميّته التنظيمية قيادة عامّة مهمّتها التعامل مع فروع الحزب خارج العراق، وتشكّل قيادات هذه الفروع بمجلس القيادة الدولية للحزب بمركزية العراق، ثمّ قيادة خاصّة بالعراق وإدارة شؤونه التنظيمية والدعوة. تأثّرت هذه الهيكلية بشكل كبير، في بعدها الهرمي وبعدها التنظيمي وهويّتها العابرة، بما كان قائماً لدى جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير.
على الرغم من الطبيعة الدعوية والتبليغ الديني اللذين نشأ على أساسهما هذا الحزب، كان الجانب السياسي لعمله، أكان في جانبه العالمي أو الجانب العراقي، السعي إلى التمكين والسيطرة على السلطة أو بناء دولة إسلامية وإقامة حكومة دينية، خاصة أنّ المؤسّس الروحي محمد باقر الصدر سبق أن نظر لهذه المقولة من خلال التأصيل للحكومة الإسلامية. وهذا المسعى أو البعد شكّل أرضية الاشتراك الفكري بين حزب “الدعوة” وجماعة الإخوان المسلمين.
مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتولّي الإمام الخميني القيادة وإقرار نظريّة ولاية الفقيه أساساً ومبدأ دستوريّاً، ثمّ قيام النظام البعثي في العراق بقيادة صدّام حسين باغتيال الصدر، دخل حزب “الدعوة” في تعدّدية الآراء حول كيفية التعامل مع الثورة الإسلامية ودولتها أو حكومتها.
تشكّلت الكتلة الحاملة لمشروع المقاومة الإسلامية في لبنان، أمّة “الحزب”، في بداية التشكيل بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982
طرحت قيادة الحزب مجموعة من الأسئلة ذات البعد العقائدي والأيديولوجي تتعلّق بالموقف من ولاية الفقيه، ومنها: هل يجب على هذه القيادة الاندماج مع المشروع الإسلامي في إيران أم التمايز عنه أو القطيعة معه؟ وكان من أولى نتائج هذه الأسئلة أن تخلّى حزب الدعوة عن عالميّته وحلّ فروعه في المجتمعات الشيعية العربية. وتحوّل إلى حزب ذي هويّة إسلامية عراقية تربطه علاقة جدلية مع الثورة الإسلامية وقيادة الإمام الخميني.
انعكست هذه التحوّلات في الهويّة العالميّة لحزب الدعوة، بشكل واضح على تشكيلاته على الساحة اللبنانية، ودفعتها إلى الانتقال بكلّ ثقلها للدخول والاندماج مع الهويّة الإسلامية لولاية الفقيه بكلّ ما تعنيه من أبعاد أيديولوجية وعقائدية وسياسية واجتماعية.
إقرأ أيضاً: عن مستقبل الحزب ودوره في المرحلة المقبلة
تأسيس “الحزب”
هو التحوّل الذي أسّس لظهور وتأسيس “حزب الله”، الذي قام في بداياته على أكتاف جماعة من رجال الدين الآتين من حزب الدعوة بشكل أساس مثل الشيخ محمد يزبك والشيخ صبحي الطفيلي، الذي أصبح أوّل أمين عامّ لـ”الحزب” بعد التخلّي عن موقع الناطق الرسمي الذي شغله إبراهيم أمين السيّد الآتي من حركة “أمل”، والذي تولّى أولى خطوات التواصل مع الجانب الإيراني نتيجة وجوده في طهران ممثّلاً لحركة “أمل”. بالإضافة إلى السيّد عباس الموسوي الذي كان مقرّباً من السيّد محمد باقر الصدر من دون أن يكون له انتماء واضح لحزب الدعوة. في حين جاء السيّد نصرالله إلى “الحزب” من قيادة إقليم حركة “أمل” السياسية والتنظيمية في إقليم البقاع.
*غداً في الحلقة الثانية: في تحوّلات “الحزب” والقبضة الإيرانية (2/4)