إن لم يكن جهلاً، فمن المؤكّد أنّه كان تجاهلاً!
شهد النظام المصرفي اللبناني منذ تسعينيات القرن الماضي دوراً محورياً في دعم الاقتصاد الوطني بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). خلال تلك الفترة، اعتمدت المصارف التجارية بشكل كبير على التحويلات المالية من المغتربين، التي ساهمت في توفير السيولة اللازمة لإعادة الإعمار وتعزيز استقرار العملة المحليّة.
مع ذلك، ترافق هذا الدور مع اعتماد متزايد على نموذج اقتصادي ريعيّ ارتكز على التمويل الحكومي والدين العامّ. مع تطوّر العقد الأوّل من الألفية، ازداد اعتماد المصارف اللبنانية على الهندسات المالية لمصرف لبنان، التي سعت إلى تثبيت سعر صرف الليرة، ما جعل القطاع المصرفي أكثر انكشافاً على مخاطر الدين العامّ. ومع اقتراب العقد الثاني، بدأت مؤشّرات الأزمة تظهر نتيجة للسياسات الريعية وضعف التنويع الاقتصادي، لتبلغ ذروتها بعد عام 2019 حين انهار النظام المالي والمصرفي.
تتناول هذه القراءة أزمة المصارف اللبنانيّة من خلال تحليل جذورها التاريخية والاقتصادية، مع تقديم توصيات للإصلاحات الهيكلية المطلوبة لإعادة بناء قطاع مصرفي مستدام يدعم الاقتصاد الوطني. تهدف هذه الرؤية إلى توجيه جهود رئيس الجمهورية المنتخب جوزف عون، والقاضي نواف سلام الذي كلّفه أغلبية المجلس النيابي تشكيل حكومة “الجمهورية الثالثة“.
شهد النظام المصرفي اللبناني منذ تسعينيات القرن الماضي دوراً محورياً في دعم الاقتصاد الوطني بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)
أخطاء المصارف الاستراتيجية
إرتكبت المصارف التجارية اللبنانية عدّة أخطاء إستراتيجية ونظامية قبل الأزمة المالية العالمية في 2008، وبعدها، فساهمت في تفاقم الأزمات الاقتصادية وصولاً إلى الإنهيار الحالي. أبرز الأخطاء تشمل الإفراط في ملاحقة السيولة بالعملة الأجنبية حتى حدّ الاختناق، والتمادي في إقراض الحكومة اللبنانية إلى درجة الإهمال في تقيّيم المخاطر السيادية!
اعتمدت المصارف بشكل كبير على تمويل العجز في الموازنة العامّة عبر شراء سندات الخزينة بفوائد مرتفعة، ما جعلها شديدة التعرّض للمخاطر السيادية. كانت المصارف اللبنانية عالقة بين معضلة هيكلية:
- الودائع الهائلة بالعملة الأجنبية
جذبت المصارف اللبنانية ودائع ضخمة بفضل ثقة المودعين، ولا سيما المغتربين، بعد الأزمة المالية العالمية التي لم يتأثر بها لبنان، حيث بقي القطاع المصرفي اللبناني بمنأى عنها. ومع ذلك، شكّلت هذه الودائع عبئاً كبيراً على المصارف نتيجة ارتفاع كلفة الفوائد التي كانت تُستخدم كأداة أساسية لجذبها.
- عدم قدرة الاقتصاد على إستيعاب هذه الودائع
الاقتصاد اللبناني الصغير (مقارنة بحجم هذه الودائع)، الذي كان ناتجه المحليّ الإجمالي حوالي 55 مليار دولار (مقابل ودائع تلامس عتبة الـ 175 مليار دولار)، لم يكن قادراً على توظيف هذه الودائع في مشاريع إنتاجية مستدامة لتغطية كلفة الودائع.
إرتكبت المصارف التجارية اللبنانية عدّة أخطاء إستراتيجية ونظامية قبل الأزمة المالية العالمية في 2008، وبعدها، فساهمت في تفاقم الأزمات الاقتصادية
- اللجوء إلى التوظيفات لدى مصرف لبنان والدولة
نتيجة غياب فرص استثمارية مجدية في القطاع الخاص أو مشاريع إنتاجية كبرى، لجأت المصارف اللبنانية إلى إقراض الدولة والتوظيف في مصرف لبنان (من خلال شهادات الإيداع وغيرها)، مستفيدةً من الفوائد المرتفعة على سندات الخزينة والهندسات المالية. هذا التدفق الكبير للسيولة منح الفاسدين في السلطة مساحة واسعة للإنفاق العشوائي، متجاهلين عمداً إقرار موازنة عامة تُسهم في ضبط الإنفاق العامّ بما يتناسب مع إيرادات الدولة.
كما أدى هذا النهج إلى تغييب المشاريع الإنمائية التي كان من شأنها تعزيز الاقتصاد الوطني وتحفيز النموّ المستدام. المصارف أصبحت جزءاً من نموذج اقتصادي ريعي يعتمد على تحويلات المغتربين والهندسات المالية، بدلاً من استثمارات حقيقية في الاقتصاد المحلي. إذ ركزت المصارف على المردود السريع من خلال التوظيفات لدى مصرف لبنان بدلاً من التفكير في إستراتيجيات مستدامة.
فقاعة مالية
في المحصّلة، أصبحت الودائع عبئاً على المصارف بسبب كلفتها العالية، بينما أدّت التوظيفات غير المنتجة إلى خلق فقاعة مالية (Financial Bubble) اعتمدت على تدفّقات جديدة للحفاظ على الاستقرار. عرّض هذا الواقع المصارف لمخاطر سمعة كبيرة، إذ واجهت اتّهامات بالسرقة أو باتّباع نموذج البونزي سكيم (Ponzi Scheme). ومع توقّف التدفّقات وعدم قدرة المصارف على تأمين السيولة اللازمة لتلبية طلبات المودعين، انهارت الثقة، ما أدى إلى انهيار هذه الديناميكية وكشف عن هشاشة النموذج بأكمله.
ركّزت المصارف اللبنانية أصولها في السوق المحليّة والديون الحكومية بدلاً من تنويع استثماراتها جغرافياًّ أو قطاعيّاً، ما تسبب في ظهور إشكاليّات هيكليّة
غياب التّنويع في الاستثمارات
ركّزت المصارف اللبنانية أصولها في السوق المحليّة والديون الحكومية بدلاً من تنويع استثماراتها جغرافياًّ أو قطاعيّاً، ما تسبب في ظهور إشكاليّات هيكليّة اضطرت المصارف اللبنانية إلى مواجهتها. التركيز الجغرافي والقطاعي، إلى جانب التدخّل المباشر من مصرف لبنان، خلق ديناميكية معقدة من الاعتماد المتبادل والمخاطر المركزة:
- ضعف التنوع الجغرافي في التوظيفات المصرفية كان نتيجة لهيمنة المؤسسات الصناعية والخدماتية في مناطق محددة من لبنان. هذا التركيز جعل المصارف تواجه مخاطر جغرافية مرتفعة بسبب تدهور أو انكماش النشاط الاقتصادي في هذه المناطق. وفي المقلب الآخر، كانت التوظيفات محدودة في قطاعات ذات مردود سريع أو تركّزت في الأنشطة الريعية والخدماتية بدلاً من دعم القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة، التي كانت تعاني من تهميش كبير.
- المركزية الإدارية وقصور الوصول إلى بيانات ماليةّ دقيقة ومدقّقة في معالجة ملفات التسليف والتسديد، أدى إلى تقييم غير دقيق للمخاطر. هذا القصور جعل المصارف أكثر تحفّظاً في مقاربة التنوّع الجغرافي والقطاعي.
- مصرف لبنان لم يكتفِ بدور المشرف بل أصبح لاعباً رئيسياً من خلال سياسات الهندسة المالية، التي شجّعت المصارف على توظيف الودائع لديه أو في الدين العامّ. جعلت هذه السياسات المصارف أسيرة للسيولة السهلة من دون البحث عن بدائل استثمارية طويلة الأمد. شجّعت التدخّلات المصارف على الابتعاد عن المخاطر المعتادة (الائتمان الإنتاجي) واعتماد نهج غير صحي يرتكز على الفوائد المرتفعة.
تداعيات على سلامة القطاع
في التحليل، كان لهذا الأداء من قبل مكوّنات القطاع المالي، من المركزي إلى المصارف التجارية، تداعيات جمّة على صحة وسلامة القطاع المصرفي، وأوصلته إلى ما هو عليه اليوم، يواجه الأزمات منفرداً. ومن بين هذه التأثيرات:
- الاعتماد المفرط على الداخل.
- منع المصارف من استغلال الفرص العالمية في الأسواق الناشئة.
- تراكم المخاطر السياديّة.
خلقت هذه العوامل مجتمعة نظاماً مصرفياً يفتقر إلى المرونة، ما جعله غير قادر على مواجهة الأزمات أو التحوّل إلى نموذج استدامة حقيقي يعتمد على التنويع الاقتصادي والمالي.
أصبحت الودائع عبئاً على المصارف بسبب كلفتها العالية، بينما أدّت التوظيفات غير المنتجة إلى خلق فقاعة مالية
يظهر ذلك من خلال الاعتماد الكبير على الودائع المحليّة وتحويلات المغتربين كأحد المصادر الرئيسية للسيولة، واستثمار الجزء الأكبر من أصول المصارف في الديون الحكومية وشهادات الإيداع لدى مصرف لبنان.
هذا التوجّه، الذي غاب عنه التنويع الخارجي، حرم المصارف من استغلال الفرص الاستثمارية في الأسواق العالمية التي كانت من الممكن أن تضفي مرونة أكبر على النظام المالي. نتيجة لذلك، أصبح النظام المصرفي عرضة للانهيار عند حدوث أيّ صدمات داخلية، مثل فقدان الثقة بالدولة أو تراجع تدفّقات العملة الأجنبية.
إعتماد نموذج اقتصاديّ ريعيّ
إستفادت المصارف من الهندسات الماليّة التي قدّمها مصرف لبنان لجذب الدولار إلى جانب الإستثمار في القطاعات الإنتاجية. كان الهدف الأساسي للهندسات المالية لمصرف لبنان جذب الدولارات إلى النظام المصرفي اللبناني لدعم احتياطيّاته من العملات الأجنبية، وحماية إستقرار، أو الأكثر واقعية، تعزيز قدرته على تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية على سعر الـ1507 ليرات للدولار الواحد. لم تكن الآليّة المعتمدة من قبل المركزي مستدامة.
كيف استفادت المصارف؟
حقّقت المصارف أرباحاً هائلة بفضل هذه الهندسات المالية، حيث كانت الفوائد المدفوعة من مصرف لبنان أعلى بكثير من تلك التي يمكن تحقيقها من التوظيف المنتج في الأسواق المحليّة أو الدولية. الأهم من ذلك هو أنها (أي المصارف) استفادت من العائد المرتفع من دون الحاجة إلى تحمّل عناء دراسة ملفات التسليف أو المخاطر المعتادة المرتبطة بالقروض الإنتاجية أو الاستثمار في القطاع الخاص (Adverse Selection, Moral Hazard, Credit Risk, etc.).
لتحقيق أقصى استفادة من الهندسات المالية، قامت المصارف بجذب ودائع جديدة من اللبنانيين، مقيمين والمغتربين، عبر رفع الفوائد على الودائع بالدولار، فزادت من تكاليف خدمة هذه الودائع.
إستفادت المصارف من الهندسات الماليّة التي قدّمها مصرف لبنان لجذب الدولار إلى جانب الإستثمار في القطاعات الإنتاجية
التوظيف في سندات الخزينة
بدلاً من إستخدام هذه الأموال لتمويل مشاريع صناعية، زراعية، أو بنى تحتية قادرة على تحفيز النمو الاقتصادي، تدفّقت الأموال ضمن النظام المصرفي من دون أن يتم توظيفها في إنتاج حقيقي، ما خلق وهم الاستقرار المالي، الذي انهار عندما بدأت تدفقات الدولار في التراجع. لم ينتهِ الأمر عند هذه الحدود. تمويل الدولة عبر شراء سندات الخزينة أدّى إلى تضخم الدين العامّ مع استمرار الحكومة في تمويل العجز بدلاً من تبنّي سياسات إصلاحية.
الهندسات المالية التي استفادت منها المصارف حقّقت أرباحاً قصيرة الأمد، لكنها دمّرت أساسات الاقتصاد اللبناني على المدى البعيد.
مع ذلك، فإنّ تحليل أعمق لتداعيات هذه الإخفاقات يكشف عن مزيد من العوامل البنيويّة، مثل غياب الحوكمة والشفافية، والتبعيّة المفرطة للتحويلات الخارجية، وأوجه القصور في الاستجابة للتحذيرات الاقتصادية.
في الجزء التالي، سنسلّط الضوء على هذه العوامل بتفصيل أكبر، مع تقديم رؤية حول الإصلاحات اللازمة لإنقاذ القطاع المصرفي وتعزيز استدامته.
إقرأ أيضاً: 7 أولويّات تغيّر وجه لبنان الاقتصاديّ
غداَ في الحلقة الثانية: الأزمة المصرفية: الإصلاحات ممر إلزاميٌ (2/2)
*باحث في الشؤون الإقتصادية والنقدية