هذه البلاد ما عادت تُشبهنا يا فخامة الرّئيس

مدة القراءة 3 د

هو الرئيس الأوّل بعد مئويّة لبنان الكبير. يرث قرناً هائلاً بكلّ تجاربه وعذاباته ومغامراته. ثمّ يدخل القرن الجديد وفوق كتفيه بلاد شلّعتها العواصف وأنهكتها المحن، ولبنانيون باتوا عراة حتى من أحلامهم. جروحهم ظلّت مفتوحة وغائرة وليست تندمل إلّا بالملح، وخواطرهم المكسورة لا تُجبر إلّا بمزيد من الكسر والتهشيم.

 

كدنا نلفظ آخر أنفاسنا يا فخامة الرئيس ونحن نغلق بوّابة القرن الذي ضاع. نستحضر ما بقي من محطّاته القاتلة في شريط الذاكرة، منذ أوّل قتيل وأوّل عويل وأوّل دمعة وأوّل قطرة دم. نستحضر دفاترنا المثقلة بكلّ أوجاع الأرض، من الحروب العبثية التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ومن القهر المستدام الذي قضّ مضاجعنا، ومن القتلة الذين لاحقونا حتى آخر قبر وآخر شاهدة وآخر ضريح، ومن سكينتنا التي استحالت صنو القلق، ومن حيواتنا التي صارت موتاً فوق موتٍ فوق موت، ومن وجوهنا المكلومة وأصواتنا المكتومة وقلوبنا المثلومة وأرواحنا المحشوّة بكلّ أصناف الحزن واليأس والعذابات.

هبطت نحونا بعدما خلدنا إلى موتنا السريريّ. فالدستور في بلادنا صار ممسحة، وبات القانون جيفة، والميثاق رحلة مُضنية فوق الزجاج المطحون، والتعايش طلاقاً مؤجّلاً. والحياة الوطنية مرميّة فوق الإسفلت. وكلّ الحناجر بدأت تصدح بما لا تحتمله بلاد متناهية الصغر. فكيف الحال مع بلادنا التي بُنيت بمشقّة كبرى لتكون عِقداً يُزيّن رقبة الشرق، لا حبلاً يتدلّى فوق منصّات الإعدام!

الرئيس

إنّها لحظة تاريخيّة

هذه البلاد ما عادت تُشبهنا يا فخامة الرئيس. صارت مليئة بالعبثية والحقد والقهر. وأهلها ما عادوا يبحثون إلّا عمّن يزرع فيها الحبّ والأمل، بعدما كفروا بكلّ أولئك الذين يمتهنون الكذب والارتهان، ويحترفون قلب الطاولات أو إحراقها بمن فيها. عيوننا اليوم تشخص إليك لتنقذ ما بقي منها، وتحملنا معها من قعر الجحيم الذي أوصلونا اليه، وتعيد وصل ما انقطع بيننا وبين العرب والعالم. وحسبنا وقتذاك أن نرتصف جميعاً في ركاب خطابك البديع، الذي دقّ أبواب الناس، كلّ الناس، واجتاح قلوبهم بدون استئذان، ورفع منسوب الأمل نحو منتهاه.

هي لحظة تاريخية يا فخامة الرئيس. نفتتح معك هذا القرن الجديد وكلّنا أمل أن تعود هذه البلاد إلى حيث ينبغي لها أن تكون

كل ما نريده يا فخامة الرئيس حاضرٌ في خطاب القسم، ويكفي أن نُطبق عناوينه العريضة حتى نخرج من عنق الزجاجة، وننقل البلاد برمتها من ضفة إلى أخرى، بدءاً من حياد لبنان وخروجه من صراع المحاور وارتطام الأمم، وتحويله إلى حلقة وصل وتكامل مع المحيط ومع العالم، مرورًا بفرض الأمن والاستقرار وحماية الحدود واحتكار الدولة لحمل السلاح، وصولاً إلى اقتلاع الفساد والفاسدين وإعادة إنتاج دولة طبيعية وسليمة يحكمها العدل والقانون.

هي لحظة تاريخية يا فخامة الرئيس. نفتتح معك هذا القرن الجديد وكلّنا أمل أن تعود هذه البلاد إلى حيث ينبغي لها أن تكون، أن تعود واحة للحرّية وللحياة، درّة متألّقة فوق تاج المتوسّط، وشرفة للعرب من طنجة إلى عدن، وأن نعود معها إلى قيد الحياة، إلى مقدَّم الأمم، هناك حيث نخرج من النفق المستدام إلى رحابة الضوء.

إقرأ أيضاً: خطاب القَسَم المكتوب “بالسّكين”..

هي هوّة كبيرة، بل وكبيرة جدّاً يا فخامة الرئيس، بين ماضٍ مضى ومستقبل لا بدّ سيأتي مهما طال الانتظار. نحن ندرك تمام الإدراك حجم التعقيد وحجم المسؤوليّات، لكنّنا متوثّبون للقفز معك إلى غدنا الآتي من وراء الشمس. سنقلب الصفحة، بحلوها ومرّها. وسنفتح معاً صفحة لبنان الجديد.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@kassimyousef

مواضيع ذات صلة

سيكون على إيران القبول بحكومة نوّاف سلام!

في النهاية، سيشكّل نوّاف سلام حكومة يبدو لبنان في حاجة إليها أكثر من أي وقت. مثل هذه الحكومة ضرورة ملحّة أقلّه في ضوء ما يحدث…

طهران تريد لبنان منصّة ضدّ سوريا الجديدة؟

يصعب فصل التعثّر في استيلاد حكومة الرئيس نوّاف سلام عن التعقيدات الإقليمية. فالبلد ساحة صراع بين أميركا وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة ثانية. وهو…

الشّرع ينفّذ وثبة ثلاثيّة إقليميّة… بنجاح

من كان قبل أسابيع يراهن على سقوط سريع ومدوٍّ لنظام بشار الأسد المتشبّث بكرسي الرئاسة بدعم إيراني – روسي؟ من كان يقول إنّ الميليشيات وجيش…

ترامب وريفييرا الشّرق في غزّة

انشغل العالم بقنبلة دونالد ترامب وعنوانها “تحويل غزة المدمّرة إلى ريفييرا الشرق”، أو لاس فيغاس، مع أنّ ما حدث في غزة أفدح كثيراً ممّا حدث…