“إسرائيل” لم تنتصر… و”الشعب الفلسطيني” لم ينهزم

مدة القراءة 8 د

من انتصر في غزة؟ ولماذا؟ ومن انهزم؟ وكيف؟ أم هي جولة أخرى من جولات القتال انتهت أو شارفت على الانتهاء من دون حسم؟

مع إعلان الاتّفاق على وقف إطلاق النار في غزة، وتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، منتصف الشهر الجاري، بدأ التنازع الحادّ على سرديّة النصر والهزيمة، وسط محاولات محمومة من طرفَي الحرب، لبثّ شواهد تعزّز مزاعم كلّ طرف. فإسرائيل على مدى 15 شهراً لم تترك حجراً في القطاع من دون أن تقلبه، بحجّة البحث عن أسراها، وعن أنفاق حماس، لكنّها في حقيقة الأمر كانت ترسم صورة النصر الحاسم على الشعب الفلسطيني في كلّ مكان.

أمّا حماس فبذلت جهوداً كبيرة في المُفتتح والمُنتهى، وبين هاتين المحطّتين، لترسيخ صورة مغايرة تماماً، بدءاً من مشهديّة اقتحام غلاف غزة، في هجوم 7 أكتوبر 2023، وإذلال الجنود الإسرائيليين، وأسر أكثر من 250 من المدنيين والجنود، والحرص على توثيق العمليات القتالية إعلاميّاً على مدى 15 شهراً، واختتام المشهد يوم الأحد الماضي بتظهير دلائل سيطرة الحركة على القطاع. فأين تثوي الحقيقة؟

 

معايير النّصر والهزيمة

في البدء، لا بدّ من توضيح بعض المصطلحات: النصر ومعاييره، الهزيمة ومظاهرها، النصر الحاسم وإمكانات تحقّقه. لقد عرّف الحربَ المنظّرُ العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز Carl von Clausewitz (توفّي عام 1831)، في كتابه الشهير “في الحرب On War”، فقال: “إنّها عمل من أعمال القوّة لإجبار العدوّ على الخضوع لإرادتك”.

هذا يعني بداهةً أنّ النصر هو خضوع العدوّ لما تُمليه عليه من أهدافك. أمّا مقولة النصر الحاسم أو The Decisive Victory، فلا يراها كولن غراي Colin Gray (توفّي عام 2020)، وهو أحد أبرز الاستراتيجيّين الأميركيين، إلّا ضمن ظروف معيّنة، وليس النصر الحاسم بقابل للانطباق دائماً على أرض الواقع، في الأزمان الحديثة.

 تبدو حركة حماس أقرب إلى النجاح الاستراتيجي من إسرائيل. فهي ضربت السرديّة الصهيونية في العالم، ووضعت قضيّة فلسطين على جدول الأعمال مجدّداً

خلال الحرب الباردة بين الاتّحاد السوفيتي والولايات المتحدة بين عامَي 1947 و1989، لم يكن النصر العسكري الحاسم متاحاً، حين كان الرعب النووي يضع قيوداً صارمة على خوض الحروب المباشرة بين القوى النووية خشية فناء البشرية، فكان الاكتفاء بالحروب غير المباشرة بين الوكلاء. ولهذا سُمّيت حرباً باردة. وحتى مع تفكّك الاتّحاد السوفيتي مطلع التسعينيات، بقيت روسيا قوّة نووية.

أمّا الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة كما روسيا عقب انقضاء الحرب الباردة، فانخفضت فيها احتمالات النصر الحاسم إلى درجة ملحوظة. فلم تتمكّن واشنطن من ادّعاء النصر مثلاً على حركة “طالبان” في أفغانستان، بل اضطرّت بعد عقدين من الزمان إلى الانسحاب. واستعادت طالبان السلطة في كابول، كأنّ حرباً لم تقع.

إذا كانت الحرب العالمية على الإرهاب منذ 2001 قد أظهرت تقدّماً مشهوداً في تفكيك بنية المنظّمات العابرة للحدود مثل القاعدة وداعش، إلّا أنّ مصارعة الفكر بالسلاح ليست كافيةً بالضرورة كي يُصرَع. أمّا الحرب الروسية في أوكرانيا، منذ عام 2022، فأضحت نموذجاً لتعاظم دور التكنولوجيا في ترجيح موازين القوى، بغضّ النظر عن أحجام الدول المتصارعة، وضخامة الجيوش، وثقل تجهيزاتها. وما زالت موسكو منذ قرابة ثلاث سنوات تتخبّط في محاولاتها المستميتة لفرض إرادتها على القيادة الأوكرانية.

لذلك يبقى المفهوم البديل الذي اقترحه غراي حلّاً مقبولاً لهذه الإشكالية: فبدلاً من النصر الحاسم يمكن استعمال مفهوم “النجاح الاستراتيجي” أو “Strategic success”، للدلالة على تحقيق طرف ما أرجحيّة وازنة على طرف آخر، بما يمكّنه من استكمال الصراع بالتفاوض السياسي، لتحقيق ما أمكن من الأهداف المعلنة. فما الذي تحصّل في قطاع غزة عقب 471 يوماً من القتال؟ وهل يمكن القول إنّ إسرائيل انتصرت على حركة حماس بالمفهوم المشار إليه آنفاً، أي تحقيق النجاح الاستراتيجي تجاه حماس؟

مع استطالة الحرب، ومرور الوقت، انخفض تدريجياً سقف المطالب أو التوقّعات الإسرائيلية والفلسطينية على حدّ سواء

النّصر والهزيمة في غزّة

من أجل معرفة من هو المنتصر ومن هو المهزوم في غزة، لا بدّ أوّلاً من قراءة الأهداف والغايات لكلا الطرفين. فإسرائيل أعلنت أهدافاً غير واقعية في الحرب الأخيرة. بل كانت لديها أهداف رسمية، وأهداف أخرى غير رسمية لا يمكن تقبّلها خارج إسرائيل.

أمّا الأهداف الرسمية فهي القضاء عسكرياً على حركة حماس، ومنعها من حكم القطاع سياسياً وإداريّاً، وتحرير المحتجزين الإسرائيليين في غزة. فيما تبدّت أهداف أخرى من خلال مواقف بعض مسؤوليها الحزبيين، ومن أفعال جيشها في الميادين. وهي أهداف أبعد مدى ممّا هو معلن، وليست أقلّ من تهجير أكبر عدد ممكن من سكّان القطاع، بعدما أصبح عمليّاً أرضاً محروقة، لا أثر للحياة فيه، وغير قابل للعيش به، مع عودة الاستيطان الصهيوني إليه، والاحتلال الدائم لجزء منه في الأقلّ. وقد يصل الأمر إلى المطالبة بضمّ القطاع كلّه إلى إسرائيل بعد تفريغه تماماً من الفلسطينيين.

إسرائيل

أمّا حركة حماس، وقد أربكها النجاح غير المتوقّع لعملية “طوفان الأقصى”، وما جرى فيها من قتلٍ لمدنيين إسرائيليين، ربّما لم يكن في حساباتها الأوّلية، فقد حاولت بعد أكثر من 100 يوم على الهجوم المذكور تبرير العملية وتظهير أهدافها، فيما بدا واضحاً حجم الكارثة الواقعة بغزة وأهلها، وذلك في وثيقة رسمية أصدرتها في 21 كانون الثاني العام الماضي تحت عنوان: “هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟”.

في هذه الوثيقة، أعلنت الحركة الأهداف القصوى، وهي: مواجهة ما يحاك من مخطّطات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، والسيطرة على الأرض وتهويدها، وحسم السيادة على القدس والمقدّسات. وأنّ من أهدافها إنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة، وتأكيد حقّ تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القدس. وكان رفع سقف المطالب إلى هذا الحدّ، بهدف تبرير العملية الهجومية في 7 أكتوبر، وتسويغ الخسائر الفلسطينية الهائلة الناتجة عن الهجوم الإسرائيلي المضادّ، ولاستقطاب الشارع الفلسطيني كلّه، والأمّة العربية والإسلامية.

مع إعلان الاتّفاق على وقف إطلاق النار في غزة، وتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، بدأ التنازع الحادّ على سرديّة النصر والهزيمة

إذ إنّ الاكتفاء بالأهداف التكتيكية لم يعد مجدياً، وهذه الأهداف هي: وقف العدوان الإسرائيلي، وفكّ الحصار عن القطاع، وتبييض السجون الإسرائيلية من آلاف الأسرى الفلسطينيين. فما وقع من أضرار كبيرة عقب الهجوم الإسرائيلي، من تدمير شامل لقطاع غزة، واعتقال آلاف آخرين من الفلسطينيين في القطاع والضفة، ومن بينهم أسرى محرّرون في صفقات سابقة، وأفراد من نخبة حماس الذين اقتحموا غلاف غزة، وهجمات إسرائيلية منسّقة على مدن الضفة ومخيّماتها، جعل من الأهداف التكتيكية لطوفان الأقصى غير ذات معنى.

تخبّط طرفي النزاع

أفضل وصف للتخبّط لدى طرفَي النزاع ما أورده أنتوني كوردسمان Anthony Cordesman (توفّي عام 2024)، وهو كبير الخبراء الأميركيين في شؤون الشرق الأوسط، في مقال له في 2 تشرين الثاني العام الماضي، في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، تحت عنوان: لماذا لن تنتهي الحرب؟ فبحسب كوردسمان، لم تكن واضحةً الأهداف الاستراتيجية لحركة حماس من هجومها المباغت. ولم تكن لدى إسرائيل أهداف استراتيجية واضحة للتعامل مع السكّان الفلسطينيين في غزة، في اليوم التالي بعد انتهاء الحرب.

قال كوردسمان إنّ من شبه المؤكّد أنّ إسرائيل ستكون قادرة على احتواء غزة، وإضعاف حماس بشكل خطير. وفي أحسن الأحوال، يمكن لإسرائيل استخدام القوّة لاحتلال غزة والسيطرة عليها، لكن لن يقبلها سكّان غزة أبداً، ولن تكون إسرائيل قادرة على توفير تنمية ناجحة أو حياة كريمة لأهل غزة. بل زادت تصرّفات إسرائيل بشكل حادّ من العداء الغزّي والفلسطيني والعربي لإسرائيل، وقوّضت التعاطف والدعم الدوليَّين اللذين اكتسبتهما إسرائيل بعد الغزو الأوّلي لحركة حماس.

مع استطالة الحرب، ومرور الوقت، انخفض تدريجياً سقف المطالب أو التوقّعات الإسرائيلية والفلسطينية على حدّ سواء. لكنّ هذا الانخفاض لم يكن متكافئاً بين الطرفين، وهو ما عرقل إنجاز الاتّفاق في أيار الماضي. فمع استعمال القوّة الغاشمة، ولحسابات شخصية لرئيس الحكومة الإسرائيلية، أصرّ نتنياهو على فرض الاستسلام الكامل على حركة حماس، وجاراه أحياناً في ذلك الرئيس الأميركي السابق جو بايدن.

إسرائيل أعلنت أهدافاً غير واقعية في الحرب الأخيرة. بل كانت لديها أهداف رسمية، وأهداف أخرى غير رسمية لا يمكن تقبّلها خارج إسرائيل

بالمقابل، كانت حماس أسرع في التقاط إرغامات الواقع، فباتت تطالب بانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، ومن محورَي نتساريم وفيلادلفي خاصة، وضمان الإعمار بعد الحرب، وإدخال عدد كافٍ من المساعدات، والإفراج عن عدد أقلّ من الأسرى الفلسطينيين. لكنّ أيّ تبادل للأسرى مع حماس، كان سيضرب سردية النصر الكامل لنتنياهو، ويفتح عليه باب جهنّم في إسرائيل، بشأن أمور كثيرة، من الفساد إلى الفشل الاستراتيجي. اللحظة الأسوأ كانت عندما ضغط عليه ترامب فرضخ له.

إقرأ أيضاً: “التّسونامي” السّياسيّ وعصا السّنوار

بناء على ما سبق، تبدو حركة حماس أقرب إلى النجاح الاستراتيجي من إسرائيل. فهي ضربت السرديّة الصهيونية في العالم، ووضعت قضيّة فلسطين على جدول الأعمال مجدّداً. وهي كمقاومة لم تنهزم، وصمدت في الميدان. أمّا إسرائيل، وإن كانت دمّرت غزة مادّياً، فإنّها لم تنجح في دفن القضية الفلسطينية. وهذه هي خسارتها الحقيقية.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

عصر “مقاومة ترامب”!

ماذا سيفعل دونالد ترامب بالعالم، وبالمنطقة، وبنا؟ سؤال “المليار دولار” الضاغط على عقول حكّام وأنظمة العالم منذ أن أُعلن فوز الرجل بمنصب الرئاسة. هذا السؤال…

ماكرون يستعجل لحجز موقع في دمشق

يسعى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى تحقيق نجاحات في السياسة الخارجية تعوّضه النكسات المتلاحقة في البيت الداخلي. فاز الرجل بالرئاسة لولايتين. استفاد دائماً من حشد…

خطّة ترامب الغزّيّة: لعبة قمار أم روليت روسيّة؟

لا يعرف دونالد ترامب فلسطين. لا يدرك أنّ دعوته للفلسطينيّين إلى الرحيل الطوعي عن قطاع غزّة والضفّة الغربية ستزيدهم عناداً وتمسّكاً بأرضهم. حرب الإبادة الجماعية…

سيكون على إيران القبول بحكومة نوّاف سلام!

في النهاية، سيشكّل نوّاف سلام حكومة يبدو لبنان في حاجة إليها أكثر من أي وقت. مثل هذه الحكومة ضرورة ملحّة أقلّه في ضوء ما يحدث…