بعد التحوّل السّوريّ: مفاجأة تركيّة – مصريّة في ليبيا؟

مدة القراءة 9 د

كان السؤال المطروح قبل أشهر يتعلّق بفرص صمود التقارب التركي- المصري. السؤال البديل الذي ينتظر الإجابة اليوم هو: هل من الممكن لأنقرة والقاهرة التأسيس لسيناريو اختراق سياسي ثنائي مشترك يدعم تسريع الحلحلة في المشهد الليبي؟

توفّر الأجواء العربية والإقليمية القائمة فرصة، قد لا تعوّض للجانبين التركي والمصري، لطرح خارطة طريق سياسية مشتركة باتّجاه تسوية النزاع الليبي- الليبي، بعد فشل عشرات المنصّات والاجتماعات الإقليمية والدولية في توفير الفرصة الحقيقية للّيبيين لإنهاء خلافاتهم. فهل تستعدّ المنطقة لمفاجأة جديدة في ليبيا هذه المرّة على غرار ما جرى في سوريا قبل شهرين، يقوده حراك ثنائي مصري – تركي، تسهّله قناعة الليبيين بضرورة تقديم تنازلات متبادلة مصحوبة بالكثير من الليونة والمرونة لإخراج بلادهم من أزمتها؟

 

برزت في الآونة الأخيرة مجموعة من الأسباب السياسية والأمنيّة والاقتصادية التي تدفع نحو المزيد من التعاون التركي المصري في الملفّ الليبي، وقناعة مشتركة بأنّه كلّما رفعت أنقرة والقاهرة من مستوى التقارب والتنسيق بينهما، انعكس ذلك إيجاباً لمصلحة تليين المواقف وتخفيف الاحتقان في التعامل مع الملفّ الليبي وإنهاء تعقيداته وتشابكاته.

منحت المتغيّرات الأخيرة في لعبة التوازنات الإقليمية في منطقتَي الشرق الأوسط والقارّة السمراء، مصر وتركيا فرصة استراتيجية، قد لا تعوّض، للمساهمة في تسريع الحلحلة على خطّ الأزمة الليبية، وما ستحمله معها من ارتدادات سياسية وأمنيّة واقتصادية لمصلحة البلدين.

مقاربة ثنائية مشتركة

انطلاقاً من ذلك، ولدت في العامين الأخيرين مقاربة ثنائية مشتركة تقوم على ضرورة تفعيل الانفتاح التركي على قيادات شرق ليبيا، بمواكبة تواصل مصري مع حكومة الدبيبة في غرب ليبيا، إلى جانب قناعة بأنّ دوافع ومحفّزات التقارب التركي- المصري في ليبيا مرتبطة بحماية مصالح البلدين في لعبة التوازنات الإفريقية وشرق المتوسّط وخطط استخراج الغاز ونقله إلى أوروبا، وخلق واقع جديد في علاقاتهما الثنائية المرتبطة بملفّات متعدّدة الأطراف.

 ولدت في العامين الأخيرين مقاربة ثنائية مشتركة تقوم على ضرورة تفعيل الانفتاح التركي

القناعة التركية المصرية هي أنّ الانقسام الحاصل في ليبيا سياسياً وعسكرياً، لن يعطي البلدين ما يريدان. بل على العكس من ذلك سيزيد من أسباب التباعد والخصومة، وأنّ الخيار الوحيد هو الذهاب إلى طاولة مفاوضات حقيقية بينهما لتقليل الخلافات وتشجيع الحوار الليبي – الليبي.

مؤشرات فرص الانفتاح

صحيح أنّ الجهود السياسية والدبلوماسية التي تبذل لم تصل إلى ما تعوّل عليه من نتائج ترضي جميع الأطراف بعد، لكنّ حراك العام المنصرم على خطّ أنقرة– القاهرة في التعامل مع الملفّ الليبي، أسفر عن بروز مؤشّرات إيجابية عديدة إلى تزايد فرص الانفتاح السياسي على حساب الاصطفافات القديمة وراء معسكرَي شرق وغرب ليبيا وإعادة ترتيب شؤون المشهد السياسي الليبي. هناك مثلاً:

– استقبال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الأسبوع المنصرم، في القصر الرئاسي بالعاصمة أنقرة، لعبدالحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة، في زيارة أثار توقيتها أكثر من تساؤل. فهي تأتي بالتزامن مع استقبال الرئيس المصري عبدالفتّاح السيسي للمشير خليفة حفتر بعد 3 سنوات على آخر لقاء بينهما.

ينبغي أن يُقرأ تزامن وجود الدبيبة في أنقرة وحفتر في القاهرة، على أنّه فرصة ليبية سانحة لتوحيد جهود الحلّ السياسي للأزمة وسط سياقات محلّية وإقليمية جديدة. ويُترجم بالاتّجاه الهادف لرفع مستوى جهود دعم خارطة طريق ليبية – ليبية حول شكل المرحلة الانتقالية، وتوظيف الدورين التركي والمصري لدعمهما في إحداث توافق سياسي حول هذه الخارطة.

منحت المتغيّرات الأخيرة في لعبة التوازنات الإقليمية في منطقتَي الشرق الأوسط والقارّة السمراء، مصر وتركيا فرصة استراتيجية

– انفتاح تركي على قيادات شرق ليبيا، بدأ بزيارة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أنقرة، في آب 2022 وكانون الأوّل 2023، وزيارة نائب وزير الخارجية التركي أحمد يلدز بنغازي في تشرين الثاني 2023. ثمّ زيارة نجل حفتر، صدّام، الذي يتولّى رئاسة أركان القوّات البرّية الليبية، لحضور معرض “ساها إكسبو” للدفاع والفضاء في تشرين الأوّل 2024، وإجراء محادثات مع وزير الدفاع التركي يشار غولر. وكان لافتاً في تلك الزيارة وجود وزير داخلية الحكومة الليبية عماد الطرابلسي. وبعدها خطوة استئناف الرحلات الجوّية بين تركيا وبنغازي بعد انقطاع طويل.

– استضافة أنقرة في نهاية تشرين الثاني المنصرم اجتماعات لجنة 5+5، المعنيّة بالمسار العسكري للتسوية، وهي اللجنة التي عادة ما كانت تجري اجتماعاتها في الداخل الليبي، بإشراف من البعثة الأممية.

– رسائل الانفتاح التركي المصري على التيّار المناصر لسيف الإسلام القذافي، الذي أخذ يعزّز حضوره في الساحة الليبية. فعلى الرغم من عدم وجود مؤشّرات صريحة إلى بدء التقارب بين الطرفين، بدا لافتاً قيام الساعدي القذافي شقيق سيف الإسلام المقيم في تركيا بنشر منشور على منصّة إكس نهاية تشرين الأوّل 2024، يقول فيه إنّ وجود الأتراك أو المصريين في ليبيا هو أمر محمود ما دام يتم بالتنسيق مع السلطات الليبية.

ليبيا

 

– بروز قناعة مصرية- تركية بأهمّية حلّ الأزمة السودانية بالطرق الدبلوماسية، وبأنّ استمرار النزاع يؤثّر بشكل مباشر على مصالحهما هناك وعلى استقرار القارّة السمراء بأكملها.

لماذا تتقارب أنقرة والقاهرة في ليبيا؟

تعود أجواء سيناريو التعاون التركي- المصري في ليبيا إلى ما بعد الانفتاح السياسي بين البلدين ورغبتهما في تبنّي طرح جديد خلال التعامل مع الملفّ الليبي، منسجم مع خيار التعاون والتنسيق، للمساهمة في عدم إطالة عمر الأزمة بين الليبيين. كانت الخطوة الأولى باتّجاه التواصل مع كلّ شرائح المجتمع الليبي وتطوير العلاقة معها، وسط مقاربة شاملة تنظر إلى ليبيا ككلّ من دون تمييز بين شرقها وغربها، وتدعم الاستقرار والتوافق السياسي.

تعود أجواء سيناريو التعاون التركي- المصري في ليبيا إلى ما بعد الانفتاح السياسي بين البلدين

لماذا تتقارب أنقرة والقاهرة في ليبيا؟ ولماذا يتراجع البعض هناك عن تصلّبه في تجاهل الواقع السياسي المحلّي والإقليمي، الذي يستدعي قراءة جديدة مغايرة في طرح المواقف وتحديد الخيارات؟

تقوم القناعة التركية المصرية الجديدة في ليبيا على ضرورة الاستثمار في الفرص الاستراتيجية السانحة لهما اليوم، بما يعزّز دورهما كوسيطين فاعلين في جهود تسوية الأزمة، التي طال أمدها وتستدعي ولادة قناعات سياسية جديدة على مستوى أطراف النزاع.

تعوّل أنقرة على موقعها ودورها في المعسكر الغربي والدعم الأميركي لها في ليبيا. وتراهن القاهرة على الدعم العربي لها هناك كلاعب أساسي مؤثّر في لعبة التوازنات الحسّاسة في القارّة السمراء. هذه المعادلة بحدّ ذاتها كافية لتشكّل قوّة دفع تركية مصرية في التعامل مع طرح جديد لملفّ الأزمة الليبية.

استغلال فرصة وصول ترامب

مع وصول دونالد ترمب إلى السلطة رسمياً في الولايات المتحدة، يبدو أنّ أنقرة والقاهرة بحكم علاقاتهما مع الرئيس الأميركي الجديد، عازمتان على استغلال هذه الفرصة لكسب دعم الأخير في تسريع عجلة الحلحلة السياسية والأمنيّة في ليبيا.

الغامض هو: متى وكيف سيعلن ترامب موقفه؟ وما هي الضمانات الإضافية التي قد يطالب بها كلا الطرفين التركي والمصري مقابل حصولهما على الدعم الأميركي المطلوب في ليبيا؟ هل يكتفي بإبعاد إيران وروسيا عن المنطقة؟ وهل ترغب القيادات التركية والمصرية بلعب مثل هذا الدور؟

نجاح أنقرة والقاهرة على خطّ طرابلس الغرب – بنغازي يتطلّب تحقيق تقدّم جوهري في التسوية، ويتوقّف على قدرتهما على إقناع اللاعبين المؤثّرين في ليبيا باعتماد خارطة طريق يعدّانها، تكون مقنعة وعمليّة وواقعية لإنهاء الانقسام الليبي.

تقوم القناعة التركية المصرية الجديدة في ليبيا على ضرورة الاستثمار في الفرص الاستراتيجية السانحة لهما اليوم

طبيعة التوازنات المحلّية والإقليمية على الساحة الليبية اليوم، إلى جانب مصالح بعض الأطراف العربية والغربية، تسهّل من تقدّم سيناريو تركي- مصري من هذا النوع، شرط أن يأخذ بعين الاعتبار التوازنات القائمة وضرورة حماية مصالح البعض هناك. تركيا ومصر ستكونان في طليعة المستفيدين من مسار الحلّ في ليبيا لأنّه سيرقى إلى مستوى واقع إقليمي جديد يمنحهما الكثير من الفرص الاستراتيجية في شمال إفريقيا وشرق المتوسّط عند إنجاز المهمّة.

في إطار الحسابات الاقتصادية أيضاً، هناك شبه تفاهم تركي- مصري على ضرورة استغلال فرص توقيع العشرات من عقود إعادة الإعمار وإنشاء البنى التحتية بالتنسيق مع القيادات الليبية دون الدخول في مواجهة، لا سيما مع الانتعاش الكبير في تلك العملية منذ تأسيس صندوق إعادة إعمار ليبيا المؤثّر في بنغازي والوزارات الليبية المعنيّة في طرابلس الغرب.

بعد نجاح الوساطة التركية على خطّ إثيوبيا– الصومال، توجّهت الأنظار نحو مساهمة تركية مصرية في حلّ الأزمة السودانية بالطرق الدبلوماسية. لكنّ المتوقّع الآن هو دخول القاهرة على خطّ الوساطة بين أنقرة من جهة واليونان وقبرص اليونانية من جهة أخرى، لفتح الطريق أمام تفاهمات في مسائل الاستفادة من غاز شرق المتوسّط وتسوية الخلافات بشأن الحدود البحرية بين دول شرقي الحوض.

إقرأ أيضاً: ارتدادات المشهد السّوريّ على الإقليم

إذا ما كانت تقارير الأمم المتحدة ترى أنّ التدخّلات الخارجية هي في طليعة أسباب المعضلات التي تمنع التوصّل لتوافقات نهائية في ليبيا، وأنّ إنهاء الانقسام هناك ليس على رأس أولويّات المجتمع الدولي في الوقت الحالي، فقناعة القيادات الليبية بقبول الدورين التركي والمصري مسهّلَين قادرين على المساهمة في تسوية الخلافات، بدأت تتحوّل سريعاً إلى فرصة لدعم الشعب الليبي كي يوحّد مؤسّسات الدولة والانتقال بالبلاد إلى مرحلة جديدة وسط حوار بنّاء يريد إنهاء المعاناة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@Profsamirsalha

مواضيع ذات صلة

الترامبية: عندما يُجلد القاضي ويُطلق السّفّاح؟

لا يكفّ دونالد ترامب عن إدهاش العالم وإفزاعه. لا يشبه أحداً ممّن سبقوه. ظاهرة في الحكم قد تصير مثالاً لطامحين كثر يملكون مثله شهوة السلطة…

عشرينيّة 14 شباط: الثّأر السّياسيّ بانتظار نضوج التّحوّلات

كثيرة هي المتغيّرات التي أحاطت بإحياء الذكرى العشرين لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. بإمكان تيّار “المستقبل” وجمهوره الانتشاء بالتحوّلات الكبرى التي سبقت ورافقت ذكرى 14…

رفيق الحريري.. وكأنّه الوداع الأخير

انتهت الحريرية السياسية يوم اغتيال رفيق الحريري، وكلّ زعم بعد ذلك هو من قبيل النهل من الميراث. لم يخرج تعبير “الحريريّة” إلّا بعد غياب صاحبها….

تلك الأيّام في بيروت

عند العاشرة صباحاً، دخلت قصر بعبدا لأوّل مرّة في حياتي، لأسلّم الرئيس إميل لحّود رسالة من ياسر عرفات، وكان معي سفيرنا في الأردن السيّد عطا…