للهزيمة اسم واحد وحيد هو الهزيمة، أكان ذلك في غزّة أو في أيّ مكان آخر كلبنان، على سبيل المثال وليس الحصر. يمجّد قسم لا بأس به من الفلسطينيين، للأسف الشديد، الهزيمة. يهرب هؤلاء، مثلهم مثل “الحزب”، من الواقع ويفضّلون الاستعاضة عنه بالعيش في الأوهام. من الواضح أنّ هناك هروباً من رؤية ما حلّ من دمار وخراب بغزّة، كأنّ الهرب من الواقع يعوّض العجز عن تحمّل المسؤولية وما يترتّب على ذلك تجاه المواطن العاديّ.
ما لحق بحماس في غزّة هزيمة. استطاعت إسرائيل، التي لا تمتلك أيّ مشروع سياسي من أيّ نوع باستثناء القضاء نهائياً على فكرة خيار الدولتين، التخلّص من غزّة وتشريد مليونَي مواطن من أهلها. حصل ذلك بعدما قرّرت حماس شنّ “طوفان الأقصى” من دون تفكير أو تصوّر لما سيكون عليه اليوم التالي للهجوم الذي استهدف مستوطنات غلاف غزّة. كان السنوار، الذي يقف وراء هجوم “طوفان الأقصى”، الشخص الذي غيّر المنطقة كلّها في ظرف 15 شهراً. لم يبقَ السنوار حيّاً ليرى بأمّ العين ما صنعته يداه، بما في ذلك ما حصل في لبنان وسوريا. كان السنوار بين ضحايا “طوفان الأقصى” الذين زاد عددهم على سبعين ألف شهيد، في أقلّ تقدير.
للهزيمة اسم واحد وحيد هو الهزيمة، أكان ذلك في غزّة أو في أيّ مكان آخر كلبنان، على سبيل المثال وليس الحصر
المخيف في ضوء التدمير الممنهج الذي قامت به إسرائيل أنّ حماس تصرّ على أنّها حقّقت انتصاراً. على من انتصرت حماس التي تعتبر أنّها ما زالت موجودة كي تنفي أن تكون لحقت بها هزيمة؟ هل يُعتبر الانتصار على غزّة المدمَّرة انتصاراً؟
المخيف أكثر أنّ القضيّة الفلسطينيّة تراجعت في ضوء حرب غزّة. تحوّلت إلى قضية ذات طابع إنساني فيما هي قضيّة شعب موجود على أرض فلسطين يمتلك حقوقه الوطنية المشروعة قبل أيّ شيء.
صيغة غزّة من دون حماس
مارست إسرائيل كلّ أنواع الوحشيّة في القطاع كي تؤكّد أنّ غزّة زالت من الوجود وصارت أرضاً طاردة لأهلها. لا مفرّ في المرحلة المقبلة، مرحلة ما بعد وقف النار، من البحث عن صيغة جديدة لغزّة من دون حماس التي حكمت القطاع منذ منتصف عام 2007 وحوّلته إلى “إمارة إسلاميّة” على الطريقة الطالبانيّة. قضت حماس عمليّاً، بفكرها المتخلّف، على كلّ ما يمتّ لثقافة الحياة بصِلة في القطاع.
الغريب في الأمر أنّ حماس لم تقبل وقف النار إلّا بعدما استعدّ دونالد ترامب لدخول البيت الأبيض. كما العادة، منذ قيامها، وضعت حماس نفسها في خدمة المشروع اليمينيّ الإسرائيلي الساعي إلى تأكيد أن لا طرف فلسطينياً يمكن التفاوض معه. يبدو أنّ الحركة استوعبت تماماً مغزى التهديدات التي أطلقها الرئيس الأميركي الجديد – القديم في حال عدم إطلاق الرهائن الإسرائيليين الموجودين لدى الحركة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023، هؤلاء الرهائن الذين لا يهمّ مصيرهم بنيامين نتنياهو الذي وضع منذ البداية نصب عينيه التخلّص من غزّة.
المخيف في ضوء التدمير الممنهج الذي قامت به إسرائيل أنّ حماس تصرّ على أنّها حقّقت انتصاراً
كان في استطاعة حماس قبول شروط وقف النار قبل أشهر عدّة. تأخّرت في ذلك غير مبالية بسقوط مزيد من الضحايا بين الفلسطينيين وإلحاق المزيد من الدمار بغزّة. ما الفائدة من الانتظار إلى ما قبل أيّام قليلة من دخول ترامب البيت الأبيض لعقد صفقة وقف النار مع إسرائيل برعاية أميركيّة وقطريّة ومصريّة؟ هل الهدف الحصول على رضا الرئيس الأميركي الجديد؟ هل ينقذ ذلك حماس وقادة حماس؟
مستقبل نظام إيران
مرّة أخرى، سقطت حماس في امتحان مرتبط بغزة ومصيرها ومستقبل القضية الفلسطينية. لن يفيدها ترامب في شيء في منطقة دخلت مخاضاً حقيقياً ليس في الإمكان التكهّن بما سيؤول إليه باستثناء أنّ ما بات مطروحاً في عهد ترامب هو مستقبل النظام في إيران. الأكيد أنّ حرب غزة، توقّفت أم لم تتوقّف، تجاوزت حدود القطاع الذي لا تزيد مساحته على 365 كيلومتراً مربّعاً.
كانت حرب غزّة شرارة التغيير الكبير في المنطقة الذي يعبّر عنه أكثر ما يعبّر عنه ما شهدته سوريا التي خرجت من الحكم العلويّ للمرّة الأولى منذ 54 عاماً.
كان في استطاعة حماس قبول شروط وقف النار قبل أشهر عدّة. تأخّرت في ذلك غير مبالية بسقوط مزيد من الضحايا بين الفلسطينيين وإلحاق المزيد من الدمار بغزّة
يظلّ أخطر ما في الأمر، في ضوء ما يحدث في غزّة، روح اللامسؤولية التي تتحكّم بمجموعة تتأثّر بفكر الإخوان المسلمين. إنّ روح اللامسؤولية هذه تجعل حماس تفكّر في إمكان العودة إلى حكم غزّة يوماً. ترفض الحركة، بكلّ بساطة، أخذ علم بما حلّ بالقطاع وأهله. ترفض أخذ العلم بأنّ مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزّة، في حال حصوله، تعني الحاجة إلى عشرات مليارات الدولارات وما بين عشر سنوات وعشرين سنة لإعادة بناء ما دمّره الإسرائيليون. يكفي التفكير في أنّ إعادة إعمار غزّة تتطلّب إزالة نحو 428 مليون متر مكعّب من الردم؟ من سيتولّى ذلك وما ثمن إعادة إعمار غزّة؟
لا شكّ أنّ ترامب مارس ضغوطاً على نتنياهو في شأن غزّة. السؤال المهمّ: لماذا يسعى المقيم الجديد في البيت الأبيض إلى ذلك؟ الواضح أنّه يريد الانصراف إلى ملفّات أخرى في المنطقة في ضوء ما خلّفته حرب غزّة التي ذهب ضحيّتها الفلسطينيون.
إقرأ أيضاً: إعلام الحرب والنّصر… جيل أحمد سعيد
يبدو أنّ المطروح حاليّاً هو: ما الذي سيحدث في اليوم التالي لدخول وقف النار حيّز التنفيذ؟ في مقابل روح اللامسؤولية التي تحكّمت بسلوك حماس التي نفّذت مغامرة “طوفان الأقصى”، تبرز الحاجة أكثر من أيّ وقت إلى جهة مسؤولة تتولّى أمر القطاع. الثابت أنّ السلطة الوطنية بوضعها الحالي ليست في مستوى الأحداث ولا في مستوى تولّي المسؤولية في غزّة. من سيأتي بمشروع سياسي شامل للفلسطينيين الذين لا يمكن تجاهل وجودهم كشعب من شعوب المنطقة؟ ما دور الإدارة الأميركية الجديدة في ذلك؟ ما العمل بالرفض الإسرائيلي لاستيعاب أنّ هزيمة حماس لا تعني بأيّ شكل تجاوز الشعب الفلسطيني غير القابل للتذويب؟