فرنسا في لبنان: بين الدّور والعجز

مدة القراءة 7 د

يحبّ الرئيس الفرنسيّ هذا النوع من الزيارات. يحبّ أن يكون أوّل رئيس دولة يزور لبنان بعد انتخاب رئيس فتسلَّط عليه الأضواء. كما يحبّ التجوّل بين الناس. مصافحتهم. تبادل أطراف الكلام معهم. وتبادل الغمزات. فهو يحبّ هذه الشعبويّة. وقد أصبح محروماً منها في فرنسا بعد تراجع شعبيّته إلى ما دون 20%.

 

زيارة متوقّعة

لم تكن مفاجأة زيارة الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون لبيروت. لا بل كانت متوقّعة. فالعلاقة الفرنسيّة – اللبنانيّة مميّزة عبر التاريخ. وفرنسا هي أكثر البلدان التي بذلت الجهود في السنوات الأخيرة لمنع لبنان من الانزلاق إلى “جهنّم” ووقفت إلى جانبه بعد انفجار المرفأ وعملت جاهدةً لملء الفراغ الرئاسيّ.

للتذكير، قبل سنوات من حصوله، استشرفت الإدارة الفرنسيّة، كما العديد من المؤسّسات الدوليّة، الانهيار القادم إلى البلاد. عقد ماكرون مؤتمراً دولياً من أجل لبنان (2018). وعدت الدول المشاركة بتقديم 11 مليار دولار شرط القيام بالإصلاحات. عيّن ماكرون موفداً خاصّاً هو السفير بيار دوكان. زار بيروت عدّة مرّات. عقد الاجتماعات مع الرؤساء والوزراء والمسؤولين. حثّ على الإصلاحات. ولكن عبثاً.

جاء جان إيف لودريان، وكان حينها وزيراً للخارجيّة. حضّ أيضاً على الإصلاحات وحذّر من “زوال” (anéantissement) لبنان إذا لم يُقدم اللبنانيون عليها. جاءه الردّ حينها على لسان جبران باسيل الذي أراد إعطاء الدروس في كيفيّة سير بلاد من دون ميزانية.

فرحة ماكرون

فرحة ماكرون كبيرة بانتخاب رئيس للبنان. ويحقّ له الفرح بإنجاز الاستحقاق ربّما أكثر من اللبنانيين أنفسهم. فهو أكثر الأشخاص الذين بذلوا الجهود لعدم وقوع الفراغ منذ ما قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون في تشرين الأوّل 2022. لا شكّ أنّه أخطأ هو وفريقه المكلّف في إدارة الملفّ بدءاً من تبنّي مرشّح الثنائي الشيعيّ سليمان فرنجيّة وصولاً إلى محاولة تسويق صديقه سمير عسّاف الذي لا يعرفه أحد في لبنان وربّما لا يعرف أحداً فيه، مروراً بالتسريبات عن دعم زياد بارود الذي يدعمه جبران باسيل.

العجز الفرنسيّ في لبنان ليس الوحيد في العالم. ففي السنوات الأخيرة خسرت فرنسا كلّ مناطق النفوذ التي كانت لها في مستعمراتها السابقة

على مدى سنتَي الفراغ ونيّف لم يفوّت ماكرون فرصة في واشنطن والرياض إلا وطرح فيها قضية انتخاب رئيس للبنان، فالعاصمتان هما المعنيّتان بهذا الاستحقاق والأكثر تأثيراً فيه. كان قصر الإليزيه يسوّق بأنّ الرئيس تطرّق إلى مسألة انتخاب رئيس للبنان في كلّ لقاء مع وليّ العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان وفي كلّ اتّصال هاتفيّ معه، وليس بالضرورة أن يكون الأمير موافقاً على طرح المسألة اللبنانيّة في ذاك التوقيت. وحاول أكثر من مرّة تفعيل “الخماسية” للضغط على الأطراف اللبنانيّة لانتخاب رئيس. بيد أنّ كلّ تلك الجهود الفرنسيّة لم تأتِ أُكُلها إلّا حين دقّت ساعة الانتخاب في الرياض وواشنطن. وهو ما أظهر عجز فرنسا حتى في بلاد الأرز.

أهمّيّة الدّور الفرنسيّ للبنان

العجز الفرنسيّ في لبنان ليس الوحيد في العالم. ففي السنوات الأخيرة خسرت فرنسا كلّ مناطق النفوذ التي كانت لها في مستعمراتها السابقة، خاصّة في دول الساحل الإفريقيّ الفرنكوفونيّ. فالدولة العظمى سابقاً لا تعدو كونها اليوم قوّة إقليميّة في الاتّحاد الأوروبيّ.

على الرغم من تراجعه يبقى الدور الفرنسيّ مهمّاً للبنان لعدّة أسباب أبرزها:

– فرنسا قادرة على إبقاء لبنان وقضاياه وملفّاته الشائكة مطروحة على مستوى العالم، فلديها شبكة علاقات دبلوماسيّة عالميّة مؤثّرة. وهي عضو دائم في مجلس الأمن الدوليّ.

فرحة ماكرون كبيرة بانتخاب رئيس للبنان. ويحقّ له الفرح بإنجاز الاستحقاق ربّما أكثر من اللبنانيين أنفسهم

– فرنسا شريكة في اتّفاق وقف إطلاق النار الأخير بين “الحزب” وإسرائيل. مشاركتها ومراقبتها لتنفيذه ستكونان لمصلحة لبنان أكثر منهما لمصلحة إسرائيل، وتساهمان في الدفاع عن مطالب لبنان ومصالحه، على عكس مشاركة الولايات المتحدة الأميركيّة التي تقف إلى جانب إسرائيل ومصالحها.

– لبنان يحتاج إلى دعم دوليّ، خاصّة من المؤسّسات الدوليّة الماليّة، للنهوض اقتصادياً واجتماعياً وليس فقط سياسياً. وفرنسا لها حضور قويّ في تلك المؤسّسات. وقد اعتادت أن تقود الدعم الدوليّ من أجل لبنان منذ رئاسة رفيق الحريري لحكومات لبنان، إذ سخّر الأخير صداقته مع جاك شيراك لخدمة لبنان وأعاد تفعيل الدور الفرنسيّ فيه على الرغم من الوصاية السوريّة والنفوذ الإيرانيّ. صحيح أنّ المساعدات، في حال كانت قروضاً أو هبات، ستكون بغالبيّتها من دول الخليج العربيّ، لكنّ فرنسا هي القادرة على الدعوة إلى مؤتمرات دوليّة من أجل لبنان. وربّما ستكمل لعب هذا الدور.

موقع لبنان في سياسة فرنسا

الاهتمام الفرنسيّ بلبنان وملفّاته الشائكة والتعامل “المُتعب” مع سياسيّيه هما بطبيعة الحال نتيجة وجود مصالح كثيرة لفرنسا في لبنان. من المهمّ التذكير بها ونحن في بداية عهد جديد ومرحلة جيوسياسيّة جديدة في لبنان، بعد الضربة التي تلقّاها “الحزب” من إسرائيل. وهي أيضاً مرحلة جيوسياسيّة جديدة في المنطقة مع تراجع الدور الإيرانيّ بعد أربعة عقود وتقدّم الدور الإسرائيليّ.

ماكرون

– مصالح فرنسا في لبنان ليست فقط تاريخيّة وثقافيّة، إنّما اقتصاديّة وجيوسياسيّة خاصّة. ربّما السوق اللبنانيّ يبدو صغيراً جداً للاقتصاد الفرنسيّ الذي يتبوّأ المرتبة الخامسة عالمياً. بيد أنّ موقع لبنان على شرق المتوسّط وعلى حدود إسرائيل له أهميّة كبرى لفرنسا التي هي أيضاً دولة متوسطيّة وتتطلّع منذ القديم إلى مدخل إلى الشرق الأوسط عبر شرق المتوسّط. لذلك حاولت فيما مضى الاحتفاظ بخليج الإسكندرون السوريّ. وحاول أسلاف ماكرون تفعيل الشراكة الأورومتوسطيّة بين الاتّحاد الأوروبيّ ودول شمال إفريقيا ودول شرق المتوسّط.

لم تكن مفاجأة زيارة الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون لبيروت. لا بل كانت متوقّعة

– تشكّل ثروة لبنان من النفط والغاز في البحر أهميّة استراتيجيّة لفرنسا، كما لأوروبا، ولو أنّ احتياطاته لا تزال غير مؤكّدة.

– سقوط نظام بشار الأسد وتقدّم النفوذ التركيّ يدفعان بفرنسا للتمسّك أكثر بعلاقاتها بلبنان وتطويرها. فأيّ تمدّد للنفوذ التركيّ في شرق المتوسّط سيقوّي موقف أنقرة التي تخوض صراعاً جيوسياسيّاً مع الاتّحاد الأوروبيّ منذ رفض هذا الأخير قبول طلب عضويّتها فيه.

– علاقات فرنسا المميّزة مع لبنان تساعدها على الاحتفاظ بدورها في الصراع الإسرائيليّ – الفلسطينيّ. وهذا ما تجلّى بقبول نتنياهو مشاركة فرنسا في اتّفاق وقف النار الأخير.

– في العلاقات الفرنسيّة – الإيرانيّة يلعب لبنان دوراً كبيراً. فمن جهة تتطلّع فرنسا إلى استثمارات في إيران بعد رفع العقوبات الأميركيّة. في المقابل تسعى إيران إلى الحفاظ على مكتسبات حلفائها على الرغم من قرارها التخلّي عنهم منذ سنوات (كما أكّد الخبير في الشأن الإيرانيّ برنار هوركاد في مقابلة مع “أساس”). وهنا يمكن لفرنسا لعب دور في إقناع الثنائي الشيعيّ بعدم مقاطعة العهد الجديد، وبإقناع المتحمّسين الداعمين للعهد بعدم إقصائهم. وهذا كان أحد أهداف زيارة الرئيس الفرنسيّ بالأمس.

إقرأ أيضاً: عون – سلام: نهاية 50 عاماً من الوصاية

على الرغم من حماسة ماكرون واستمرار الاندفاعة الفرنسيّة تجاه لبنان، يبقى الدور الفرنسيّ محدوداً في لبنان والمنطقة، ويجب التعامل معه على هذا الأساس، وعدم التعويل عليه كثيراً، ولا التخلّي عنه كلّياً.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@Fadi_ahmar

مواضيع ذات صلة

عصر “مقاومة ترامب”!

ماذا سيفعل دونالد ترامب بالعالم، وبالمنطقة، وبنا؟ سؤال “المليار دولار” الضاغط على عقول حكّام وأنظمة العالم منذ أن أُعلن فوز الرجل بمنصب الرئاسة. هذا السؤال…

ماكرون يستعجل لحجز موقع في دمشق

يسعى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى تحقيق نجاحات في السياسة الخارجية تعوّضه النكسات المتلاحقة في البيت الداخلي. فاز الرجل بالرئاسة لولايتين. استفاد دائماً من حشد…

خطّة ترامب الغزّيّة: لعبة قمار أم روليت روسيّة؟

لا يعرف دونالد ترامب فلسطين. لا يدرك أنّ دعوته للفلسطينيّين إلى الرحيل الطوعي عن قطاع غزّة والضفّة الغربية ستزيدهم عناداً وتمسّكاً بأرضهم. حرب الإبادة الجماعية…

سيكون على إيران القبول بحكومة نوّاف سلام!

في النهاية، سيشكّل نوّاف سلام حكومة يبدو لبنان في حاجة إليها أكثر من أي وقت. مثل هذه الحكومة ضرورة ملحّة أقلّه في ضوء ما يحدث…