يستحقّ أطفال غزّة فرصة للحياة. يستحقّون البسمة والدفء في أحضان أمّهاتهم في خيم النازحين بعدما سُحقت منازلهم وسُوّيت بالتراب. يستحقّ القطاع أن يستعيد أنفاسه وإنسانيّته بعدما سجّل أهله مأثرة صمود لا مثيل لها بالتاريخ. لكن ماذا عن الغزّيّين ومستقبلهم في الشريط المدمّر بعد وقف النار؟
اتّصال هاتفي واحد من المبعوث الأميركي الخاصّ الجديد للشرق الأوسط ستيف ويتكوف برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان كفيلاً بإعلان اتّفاق لوقف النار في غزة.
لا يوجد في البيت الأبيض رئيس قويّ وآخر ضعيف. أميركا هي القويّة متى شاءت. إدارة الرئيس جو بايدن أتاحت لإسرائيل سبي غزة وتدميرها. لم تتدخّل إدارة الرئيس دونالد ترامب من أجل وقف الإبادة وإنهاء الحروب بل من أجل حصد نتائجها السياسية وتوظيفها مكاسب استراتيجيّة لإسرائيل وأميركا.
لا يوجد في البيت الأبيض رئيس قويّ وآخر ضعيف. أميركا هي القويّة متى شاءت
بايدن و”فرصة” غزّة “التّاريخيّة”
وجدت الإدارة الديمقراطية في “طوفان الأقصى” فرصة لن تتكرّر لتصفية الكفاح الفلسطيني المسلّح تمهيداً لتغيير الشرق الأوسط. صوّبت كلّ السهام الغربية نحو “حماس”. أطلقت يد اليمين المتطرّف الإسرائيلي وآلته الحربية، وتركته يسحق الحركة ومقاومتها ومعهما غزة وأهلها.
حقّق نتنياهو وزمرته الحاكمة أرقاماً قياسية في الفتك والإرهاب وارتكاب المجازر. سوّى مدن القطاع وقراه والمخيّمات بالأرض. أباد الأطفال والنساء والعجّز قبل الرجال والمقاتلين. عزل غزة عن متنفّسها المصري وأبعدها عن البحر. قطّع أوصالها. فصل شمالها عن جنوبها. ولم يترك موبقة إلّا واقترفها. شجّعته واشنطن على توسيع عدوانه ليطال كلّ محور الممانعة، بدءاً بـ”الحزب” في لبنان الذي خرج وبيئته من القتال مثقلين بالجروح الدامية والأليمة، وصولاً إلى “أنصار الله” في اليمن، وترك إيران معلّقة خلف حدودها تنتظر الغيب ودورها.
ترامب يحصد مكاسب بايدن
الجمهوريون، عندما كانوا خارج البيت الأبيض، لم يكونوا أقلّ حماسة، من الديمقراطيين، للتخلّص من “العبء” الفلسطيني وحماس و”الحزب” و”أنصار الله” وحكم الملالي في طهران.
وجدت الإدارة الديمقراطية في “طوفان الأقصى” فرصة لن تتكرّر لتصفية الكفاح الفلسطيني المسلّح تمهيداً لتغيير الشرق الأوسط
بعد عودتهم إلى البيت الأبيض، لم يتغيّر الهدف بل يجري تأكيده والمضيّ به بأسلوب ومقاربة جديدين. أطلقت إدارة بايدن مساراً تفاوضياً شائكاً ومعقّداً وتركته يطول ويطول ما دامت الحرب الإسرائيلية لم تنجز مهمّتها كاملة بالقضاء المبرم على القضية. ومع انتهاء الولاية ومجيء إدارة ترامب، وصل التفاوض إلى خواتيمه فأطلقت في أثره مسار تهدئة يسعى راعيه الأبرز من خلاله إلى أن يحقّق بـ”السلام” ما لم يتحقّق بالحرب والخراب. وبهذا يقول ترامب لنتنياهو: “استنفدت الوقت الكافي، ولم تنجح، نحن الآن لنا مصالحنا وسياستنا ولنا طرقنا في تحقيق الأهداف”.
اتّفاق غزة ليس منّة من أحد، لا من الأميركي ولا من الإسرائيلي ولا من أيّ وسيط. كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير لولا الصبر العظيم من الغزّيين وتحمّلهم ما لا يتحمّله أيّ شعب في التاريخ. إسرائيل قبلت به مرغمة وتعاملت معه كهدنة مؤقّتة تستعيد من خلالها رهائنها لإفقاد حماس أقوى أوراقها، على أن تعود إلى الحرب في اللحظة المناسبة.
في المقابل نظر إليه الأميركي كجزء من مشهد أكبر يعيد تشكيل المنطقة وبناء نظام إقليمي مغاير لما كان قائماً من قبل، تكون فيه إسرائيل بعد تنظيف سمعتها المشوّهة، ركيزته الأساس وواشنطن الراعية الكبرى والحكم المطلق.
هذا الاتّفاق زُرعت في طيّاته وبنوده ألغام وفخاخ تجعله هشّاً وضعيفاً وسهل الاختراق. ويزيد من هشاشته ترك الضفّة الغربية ضحيّة للاستيطان والتهويد، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بغزّة. والأهمّ أنّه لا يجيب عن السؤال الأهمّ المطروح منذ أوّل أيّام الحرب: ماذا عن اليوم التالي؟
اتّفاق غزة ليس منّة من أحد، لا من الأميركي ولا من الإسرائيلي ولا من أيّ وسيط
من سيتولّى إدارة القطاع بعد الحرب؟
- حماس ضعفت قوّتها العسكرية والسياسية وخسرت حلفاء فاعلين ولم يعد لديها المزيد لتخسره. لكنّها وإن بقيت وحيدة، ستكون مرفوضة أميركياً وإسرائيلياً ومن أنظمة عربية معنيّة ومن شريحة واسعة من الفلسطينيين تحمّلها والاحتلال وزر ما حلّ بالقطاع من نكبة. بقاؤها في السلطة قد يحرم السكّان من المساعدات الدولية وإعادة الإعمار ويزيد القطاع فقراً ومعاناة. تركها السلطة يعني خروجها من المشهد السياسي.
- السلطة الفلسطينية في رام الله ترغب بالعودة إلى القطاع والسيطرة الكاملة. لكنّها لا تزال عاجزة ومرفوضة من إسرائيل وحماس. وهي أيضاً ترفض أيّ تعاون مع الحركة الإسلامية حتّى لا تدان خارجياً. تسعى إلى السيطرة على معبر رفح حتى تتحكّم بحركة النقل والانتقال ويكون بوّابتها إلى الداخل، والعمل من خلال البلديات. ولا شيء في الأفق يشير إلى إمكان تحقيق لمّ شمل وطني يعيد جمع الفلسطينيين على برنامج سياسي واحد وإدارة موحّدة.
- إسرائيل تتجنّب السيطرة المباشرة ودخول التجمّعات السكّانية تفادياً لخسارة المزيد من جنودها. تريد احتلالاً بالواسطة يحفظ لها حقّ التدخّل برّاً وبحراً وجوّاً في كلّ الشؤون الغزّية، ويفتح باب المساعدات ساعة يشاء، ويمنع وصول الممنوعات، ويتيح لها اصطياد المتمرّدين واغتيالهم في اللحظة المناسبة وتجريد القطاع من السلاح.
حاولت ولا تزال تحاول إحياء “روابط القرى” وميليشيات العشائر والعائلات كي تكون شرطياً لغلافها الحدودي. تتجنّب إعادة الاستيطان في القطاع مجدّداً كي لا تغضب واشنطن. لكنّ الاستيلاء على أجزاء من أرض القطاع لا يزال حاضراً في أجندتها. وقد لا تمانع وجوداً شكليّاً لحماس لتبرير المزيد من جرائمها وتدخّلها.
واشنطن بلسان وزير خارجيّتها الحالي أنتوني بلينكن ترى أنّ إدارة القطاع يجب أن تتولّاها سلطة رام الله بعد انسحاب إسرائيل
واشنطن ومصر وأهل غزّة
- واشنطن بلسان وزير خارجيّتها الحالي أنتوني بلينكن ترى أنّ إدارة القطاع يجب أن تتولّاها سلطة رام الله بعد انسحاب إسرائيل. لكن مع أدوار مؤقّتة للأمم المتحدة وأطراف أجنبية، ووجود قوات أمنيّة مؤقّتة ستتشكّل من قوّات من دول شريكة وعناصر فلسطينيين تمّ التحقّق من هويّاتهم.
- مصر ترفض هذا الأمر، وتتمسّك بأن تدير السلطة الفلسطينية القطاع، ولا تريد أيّ مشاركة لأيّ قوّة أجنبية، علاوة على أنّ إدارة ترامب قد تكون لديها خطّة بديلة عن خطّة بايدن.
- أمّا بالنسبة لسكّان غزّة، فيُخشى أن يكون مصيرهم الفعلي مرتبطاً بخروجهم التدريجي من القطاع، على مراحل، بقرار ذاتي أو دولي. ذلك أنّ إعادة إعمار غزة لن تكون لمصلحة الفلسطينيين، بل ستكون مرهونة بشروط دولة إسرائيل وحليفتها واشنطن. وسيجعل ذلك الحياة مستحيلة في غزة. وقد تترافق الهدنة ومنع إعادة الإعمار والتقنين في المساعدات، مع فتح المعابر أمام الغزّيين للهجرة الطوعية بتسهيل أجنبي. وهو ما يسمح بخروج عشرات الآلاف من الذين ضاقت بهم سبل العيش. وهذا لا ينتج لاجئين بالمعنى التقليدي، بل سيتيح دمج هؤلاء كمواطنين في الدول المضيفة حتى لا تتكرّر تجربة نكبة 1948 التي أفرزت ملايين اللاجئين وعتاة المقاتلين والثوّار ومنظّمات إغاثة دولية دائمة مثل وكالة “الأونروا” التي باتت ألدّ أعداء تل أبيب. وقد تسهّل إسرائيل خروج الغزّيين من خلال معابرها من دون السماح لهم بالعمل في داخلها، الأمر الذي يجعل أبواب السفارات ملاذهم الوحيد.
إقرأ أيضاً: ترامب يُجبر نتنياهو.. على وقف حرب غزّة
كما أنّ الطرح الأميركي بإشراك قوى دولية في إعادة تشكيل حكم غزّة مع تمثيل فلسطيني محدود، من شأنه تقسيم أراضي القطاع، لا سيما المدمّرة منها، إلى قطاعات تتناتشها الشركات الغربية بمشاركة فلسطينيين من خارج الكيانات السياسية، لتنفيذ مشاريع اقتصادية وأمنيّة طويلة المدى، بما في ذلك إنشاء مطار وميناء ومنتجعات سياحية ومناطق تبادل تجاري، يمكنها خلال عقود من تغيير شكل المنطقة وطبيعتها وتركيبتها الديمغرافية.
مع وقف صخب آلة الحرب الدمار وتوقّف صراخ الضحايا الأبرياء وغياب الشاشات والتغطية الإعلامية الواسعة، هل صار الخيار الوحيد لأهل غزة المكلومين والجوعى أن يغادروا أرضهم بلا ضجيج؟