2025 سنة الشعب السوري

مدة القراءة 6 د

“يا نسيم الريح قولي للرشا   لم يزدني الورد إلا عطشا

لي حبيب حبّه وسط الحشا   إن مشى يمشي على خدّي مشى

روحه روحي وروحي روحه   إن يشا شئت وإن شئت يشا”

                                                                        (الحلّاج)

رائعة أغنية “يا نسيم الريح” كما غنّاها ولحّنها مرسيل خليفة في لحن أغنّ فيذرف الدمع رغم تمنّع الهدب. الحلّاج وجد حقيقته في تصوّفه، فدفع ثمنها بمقتله.

يعود إلى فكري ذاك الفيلسوف اللطيف وعالم الفلك والرياضيات، بليز باسكال في كتابه الشهير “التأمّلات”، وأخاله منعزلاً متصوّفاً في سكون الليل، يتأمّل السماء المرصّعة بالنجوم والمجرّات والشهب. كان في عزلة، لكنّه لم يكن وحيداً. فالعزلة لا تعني الوحدة، بل تعني العودة إلى صفاء الذهن في حوار مع الذات ومع الناس والمدينة والكون.

العزلة والسكون هما الباب الذي ينفتح على الوجدان، وهو الذي لا يُسمع نداؤه في زحمة الناس والضوضاء والحاجات اليومية المرهونة بخيارات الجموع، الخاضعة لديكتاتورية الآخرين الذين، من دون تفكير أو مراجعة للوجدان، يسيرون هم أيضاً في ظلّ ديكتاتورية السائد والتقليد والموروث.

رائعة أغنية “يا نسيم الريح” كما غنّاها ولحّنها مرسيل خليفة في لحن أغنّ فيذرف الدمع رغم تمنّع الهدب. الحلّاج وجد حقيقته في تصوّفه، فدفع ثمنها بمقتله

باسكال أدرك أنّ نعمة البشر في العقل، هي أيضاً نقمتهم! فلولا العقل والوعي للوجود والبحث عن معناه والرهبة من الموت ومواجهة العدمية، لعاش البشر وفنوا، كغيرهم من الكائنات الحيّة والكيانات غير الحيّة الأخرى، التي يتناسبون معها في الجوهر المادّي والبيولوجي، منذ الذرّة الأولى التي نشأت منذ مليارات السنين، في حدث لم يتمكّن العقل المحدود، في القدرة والزمن، من تفسيره ولا فهم ما تسبّب به.

باسكال فهم ضآلة وعدمية حجم ودور البشر في الكون، وفهم أنّ البحث المضني سيؤدّي حتماً إلى فقدان المعنى، فقرّر أن يلجأ إلى الإيمان بوجود معنى، حتى لا يخسر نعمة العقل أثناء الوجود.

لا تأكيد لما هو حاصل في الغد

لا أحد، خارج نطاق التوقّعات الإحصائية، يمكنه تأكيد ما هو حاصل في الغد. فالتوقّعات مبنيّة على ما حصل في الماضي، فيحوّل الاحتمالات إلى أرقام نستهدي بها لنتمكّن من البناء والتخطيط لمستقبل ما على المستوى الفردي والجماعاتيّ.

لا أحد يمتلك إلّا التوقّعات عن المستقبل، وهذه التوقّعات مبنيّة على الماضي الشخصاني وعلى الآمال بالأفضل والخوف من الأسوأ

لكنّ الإحصاءات لا تضمن ألّا يتغلّب جزء ضئيل من مئة، على الاحتمالات الطاغية. فنحن ننتظر طلوع النهار بفعل ما اختبرناه وما أخبرنا به، لكن لا شيء يمكن أن يؤكّد أنّ النهار سيطلع على كلّ البشر غداً، فقد يفنى بعضهم. ولمّا كان لتوالي الليل والنهار في المناطق المتوسّطة بين القطبين بداية، فقد تكون له نهاية.

قيل لي إنّ أحد المنجّمين ذكرني بالاسم في توقّعات يعشقها ويتابعها الكثيرون ليلة رأس السنة، ومنهم من يعتقد بأنّها أصابت في الماضي، فأرادوا توقّع المستقبل. لكنّني على الرغم من فضولي وحشريّتي لم أعِر الأمر أيّ أهميّة.

لم أفهم لِمَ ينتظر الناس شعوذات رأس السنة الشمسية، وليس رؤوس السنة الأخرى؟ وما الفرق بين ليل آخر شهر كانون الأول ونهار أول كانون الثاني؟ لكنّها الرغبة الدائمة عند البشر بكشف المجهول، وهذا المجهول هو المستقبل.

الرغبة في كشف المجهول

ما يمكن قوله هنا هو أن لا أحد يمتلك إلّا التوقّعات عن المستقبل، وهذه التوقّعات مبنيّة على الماضي الشخصاني وعلى الآمال بالأفضل والخوف من الأسوأ، لكنّ الحقيقة المطلقة ثابتة فقط لمن يصدّقها، وهي، وإن تناقضت بالكامل مع حقيقة مطلقة لآخر، تبقى حقيقة شخصية فقط. نتقبّلها ونحترمها درءاً للصراع وخوفاً على الذات من شرّه. فقلّة نادرة منّا لا ترغب بالحياة ولو للحظات أخرى لترى هذا المستقبل.

يحقّ للسوريين أن ينشدوا ويكيلوا اللعنات على روح الديكتاتور. فحتّى الرحمة والمغفرة لا تكتمل إلّا برجم الأبالسة

لكن ما دام أحد لا يمتلك الحقيقة الموحّدة، فلا يحقّ لهذا الأحد أن يفرضها على كلّ واحد آخر. من هنا على روحيّة قوانين العيش معاً أن تتفهّم التعدّد في الحقائق والعمل على التعايش السلمي فيما بينها، من دون إكراه يدفع للثورة المكبوتة التي لا بدّ أن تنفجر، وهي توقّعات صحّت وستصحّ على الأرجح في المستقبل.

هذه القوانين يجب أن لا تكون على قياس الأكثريّات حتى وإن كانت جامحة. فجوهر التوازن في القوانين هو مراعاتها للحرّيات الشخصية والسياسية والاجتماعية التي لا تتعدّى على حرّيات الآخرين. فطالما قبلنا بأنّ الحقائق المطلقة هي شخصيّة أوّلاً، ثمّ جماعية، فلا يمكن لحقيقة واحدة أن تغتصب حرّيات الآخرين في اعتناق حقائقهم.

تكمن المصيبة في أنّ معظم الثورات تقوم على أساس القضاء على طغيان حقيقة مطلقة ما، تفرض بالعنف حقيقتها المطلقة على حقائق أخرى. من هنا الخوف هو من دوّامة طغيان الحقائق بشكل دوريّ، فيدخل الناس إمّا في عدميّة القبول بالأمر الواقع خوفاً، أو الموت ثورةً أو غمّاً، أو العودة إلى ثورة جديدة لرفض الطغيان. وهكذا إلى أبد الآبدين.

كما يخرج المؤمنون بالتقمّص من دورات الحيوات والتجارب فيأخذون الخيار بتخليص اللاهوت من الناسوت، يمكن للتغيير، حتى لو أتى بعد ثورة، أن يعترف بتعدّد الحقائق للتوفيق بينها، أو على الأقلّ التعايش السلمي فيما بينها، حتى يتمكّن الجميع من الذهاب إلى مصالحهم، بدل تخريب المصالح بفرض حقيقة مطلقة واحدة.

تكمن المصيبة في أنّ معظم الثورات تقوم على أساس القضاء على طغيان حقيقة مطلقة ما، تفرض بالعنف حقيقتها المطلقة على حقائق أخرى

أرسل لي أحد الأصدقاء شريطاً مصوّراً على وسائل التواصل الاجتماعي، من مطعم سوريّ ينشد الناس فيه والبهجة على وجوههم: “يلعن روحك يا حافظ يلعن روحك” على لحن أغنية عظيمة لأمّ كلثوم لحّنها العبقري رياض السنباطي على كلمات مبدع هو بيرم التونسي. “القلب يعشق كلّ جميل”، قصيدة نظمها التونسي بمنطق صوفي عند عودته من أداء مناسك الحجّ. “أنا إلّي أعطيتك من غير ما تتكلّم… وأنا إلّي علّمتك من غير ما تتعلّم”، ليذكّر الخالق البشر بأنّهم ميّالون إلى تكرار الخطأ، ثمّ يقول “دخلنا باب السلام… غمر قلوبنا السلام بعفو ربّ غفور”، قاصداً أنّ السلام هو صنو الغفران والعدل والرحمة.

يحقّ للسوريين أن ينشدوا ويكيلوا اللعنات على روح الديكتاتور. فحتّى الرحمة والمغفرة لا تكتمل إلّا برجم الأبالسة. وقد يكون بين المحتفلين من هتف لحياة حافظ يوماً، مرغماً أو متواطئاً، وحتّى هؤلاء يحقّ لهم إنشاد اللعنات، شرط أن يحقّ لهم إطلاق اللعنات إن رغبوا على الحكم الجديد من دون أن يذوبوا ويختفوا في أحد السجون الجديدة.

إقرأ أيضاً: سوريا: من هم المغضوب عليهم؟ ومن هم الضّالّون؟

عسى السوريون أن ينشدوا “إلّي صدق في الحبّ قليل… وإن دام يدوم يوم ولا يومين… وإلّي هويته اليوم دايم وصاله دوم… لا يعاتب إلي يتوب ولا في طبعه اللوم”. تأمّلات علّها تصحّ في السنة المقبلة بغضّ النظر عن قول المنجّمين، فقد كذبوا وإن صدقوا!

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

سيكون على إيران القبول بحكومة نوّاف سلام!

في النهاية، سيشكّل نوّاف سلام حكومة يبدو لبنان في حاجة إليها أكثر من أي وقت. مثل هذه الحكومة ضرورة ملحّة أقلّه في ضوء ما يحدث…

طهران تريد لبنان منصّة ضدّ سوريا الجديدة؟

يصعب فصل التعثّر في استيلاد حكومة الرئيس نوّاف سلام عن التعقيدات الإقليمية. فالبلد ساحة صراع بين أميركا وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة ثانية. وهو…

الشّرع ينفّذ وثبة ثلاثيّة إقليميّة… بنجاح

من كان قبل أسابيع يراهن على سقوط سريع ومدوٍّ لنظام بشار الأسد المتشبّث بكرسي الرئاسة بدعم إيراني – روسي؟ من كان يقول إنّ الميليشيات وجيش…

ترامب وريفييرا الشّرق في غزّة

انشغل العالم بقنبلة دونالد ترامب وعنوانها “تحويل غزة المدمّرة إلى ريفييرا الشرق”، أو لاس فيغاس، مع أنّ ما حدث في غزة أفدح كثيراً ممّا حدث…