لبنان ضحيّة المحاور المتحاربة… ماذا عن الحياد؟

مدة القراءة 10 د

ما يزال لبنان يتنقّل بين الأحلاف والمحاور الدولية. هذا التنقّل وضعه على خطّ الزلازل أكثر من مرّة. الأحلاف السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية، مقتلة لبنان. أيضاً وأيضاً تسبَّب له هذا التنقّل بإصابات بالغة. يتكرّر التاريخ في هذا التنقّل، وذلك منذ عام 1958 حتّى اليوم مع إقرار وثيقة القرار 1701 بعد دخول “الحزب” حرب مساندة غزة عام 2023. وهي الحرب التي دخلها لبنان لاحقاً في عام 2024.

 

 

في السابق كان يتنقّل لبنان بين حلفين: شرق وغرب. الآن يتنقّل بين أحلاف دولية ومحاور إقليمية. هذا التنقّل الأخير تسبّب له بحربٍ مدمّرة انتهت إلى تدمير جنوبه وبقاعه وضاحيته. خلاصة التنقّل التلقائية لا بدّ أن يتوصّل إليها أيّ قارئ لتاريخ لبنان منذ استقلاله حتّى اليوم.

الموقع الجغرافي للبنان، وطبيعة تركيبته الطائفية والإثنية والثقافية، يحتّمان عليه السير على حبل رفيع. أيّ اختلال في أيّ خطوة من خطواته يؤدّي إلى تفجيره داخلياً. إذ يقع لبنان في نقطة وسطى بين الشرق والغرب، وبين آسيا وأوروبا وإفريقيا، وبين العرب وغير العرب. على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط.

ما يزال لبنان يتنقّل بين الأحلاف والمحاور الدولية. هذا التنقّل وضعه على خطّ الزلازل أكثر من مرّة

لبنان بين الغرب والشّرق

يحتلّ لبنان حيّزاً بالغ الأهمّية على خطّ المواصلات والتجارة. أيّ ميل منه إلى أيّ جهة من الجهات السابقة الذكر، يخلّ بالتوازن القائم فيه. والتوازن القائم فيه انعكاس جليّ ومرآة صادقة لتموضعه الجغرافي والحضاري والثقافي. كان التوازن يقوم على أرجحيّة العلاقة الداخلية بين قوى وأخرى. كان إذا مال لبنان نحو الغرب، اشتدّ عليه الشرق. وإن انحاز للشرق قطع صلاته بالغرب، وهي صلات وطيدة وضاربة في القدم عمرها من عمر ركوب الفينيقيين سكّانه القدامى البحر.

لبنان أيضاً وأيضاً هو صلة وصل. فإذا ما صار صلة قطع، انتهى وانتفت أهمّيته وتعطّل دوره. فلبنان كما قال عنه شاعره الأكبر سعيد عقل، هو “بين الله والأرض كلام”. لبنان كلمة. كلمة تحمل الإرث الحضاري والثقافي للبشرية. وكلمة هي لغة بين الشرق والغرب. الإنسان فيه كلمة، وأهميّته كلمة. ودوره كلمة حقّ وحضارة في وجه الهمجية والبربرية. فإذا انقطع الكلام انتهى، وكلّ تحيّز وانحياز قطع للكلام.

تاريخ الأزمات.. منذ 1943

هذه القراءة هي تجربة ما سبق. وهي خلاصة تجربة عمرها آلاف السنوات، وخير دليل عليه ما يسوقه تاريخ البلد المعاصر، أي منذ الاستقلال عام 1943 حتّى اليوم.

أوّل خضّة في لبنان، أو مشروع حرب أهلية، كانت عام 1958. حينها لم ينضمّ لبنان إلى حلف بغداد، لكنّ السلطة فيه باركت هذا الحلف منذ عام 1955. المباركة هذه، مجرّد المباركة، جرّت عليه ويلات وويلات سرعان ما أنذرت بحرب أهلية كادت تطيح به وهو بعد حديث العهد بالاستقلال.

الأزمة الأقسى عام 1958 كانت أولى الأزمات بعد استقلال لبنان. جرّاء اشتداد المعارضة الداخلية تدريجياً لحكم رئيس الجمهورية كميل شمعون بدءاً من الطلاق السياسي بينه وبين حليفه السابق زعيم الحزب التقدّمي الاشتركي كمال جنبلاط. أثار سقوط أبرز خصوم شمعون عام 1957 جدلاً وتصاعداً في لهجة المعارضة. لكن إلى جانب الأسباب السياسية الداخلية، كانت الظروف الإقليمية عنصراً مؤجّجاً للخلاف السياسي الداخلي. فقد انقسم اللبنانيون خلال تلك السنوات إلى معسكرين: أحدهما مؤيّد للرئيس المصري جمال عبدالناصر، والآخر مناهض لسياسته في المنطقة.

يحتلّ لبنان حيّزاً بالغ الأهمّية على خطّ المواصلات والتجارة. أيّ ميل منه إلى أيّ جهة من الجهات السابقة الذكر، يخلّ بالتوازن القائم فيه

العدوان الثّلاثيّ… ولبنان

أسّس لذلك، نشوء حلف بغداد عام 1955 بهدف الوقوف بوجه المدّ الشيوعي. وقد ضمّ “حلف بغداد” إلى العراق كلّاً من بريطانيا وإيران، وتعهّدت الولايات المتحدة الأميركية بدعم دوله. وأيّده الرئيس شمعون من دون انضمام لبنان إليه. بينما اعتبره عبدالناصر تهديداً للقومية العربية. ثمّ ما لبثت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا أن شنّت “العدوان الثلاثي” على مصر ردّاً على تأميم عبدالناصر قناة السويس عام 1956. حينها طالبت المعارضة الرئيس شمعون بقطع العلاقات مع الدول الغربية (بريطانيا وفرنسا) التي هاجمت مصر، إلّا أنّه رفض. وتسارعت الأحداث بالمنطقة مع حلول عام 1958.

سبق ذلك الإعلان عن “مبدأ آيزنهاور” بعد إلقاء الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور في بداية عام 1957 رسالة خاصّة في الكونغرس حول الوضع بالشرق الأوسط. وبحسب آيزنهاور، تستطيع أيّة دولة أن تطلب المساعدة الاقتصادية أو العسكرية من الولايات المتحدة الأميركية إذا ما تعرّضت لتهديد. وكان يقصد بذلك التهديد السوفيتي.

عمليّاً كانت ثورة 1958 نتيجة للتوتّرات الداخلية المتأثّرة بالصراعات الإقليمية والدولية معطوفة على وضعيات داخلية. مع انحياز شمعون للسياسة الغربية، قابله فريق سياسي داخلي مع السياسة السوفيتية والمصرية بسبب “تزوير” الانتخابات عام 1957. عليه انتهت الأحداث عام 1958 بدخول لبنان اضطرابات سياسية وطائفية وتدخّل عسكري أميركي واستقالة الرئيس شمعون. تولّى قائد الجيش فؤاد شهاب الرئاسة، ممهّداً لفترة من الاستقرار النسبي والإصلاحات السياسية. كانت هذه الأزمة علامة بارزة في تاريخ لبنان بعد الاستقلال وعكست الانقسامات الداخلية حول الذهاب نحو الغرب أو الشرق وما بينهما.

عمليّاً كانت ثورة 1958 نتيجة للتوتّرات الداخلية المتأثّرة بالصراعات الإقليمية والدولية معطوفة على وضعيات داخلية

الاتّحاد السّوريّ المصريّ… و”النّكسة”

بعد حوادث عام 1958، وقف لبنان موقفاً محايداً من الجمهورية العربية المتحدة، وهي اتّحاد دولتين عربيّتين هما مصر وسوريا. لم ينضمّ ولم يعارض، فحفظ نفسه وأهله وتركيبته الفريدة. ثمّ تتالت عليه الأحداث وعلى محيطه من حرب عام 1967 بين العرب وإسرائيل واتفاقية القاهرة عام 1969 التي شرّعت السلاح الفلسطيني وغلّبتهُ على سلاح الشرعية اللبنانية برعاية عربية جامعة. ثمّ كانت أحداث أيلول الأسود عام 1969 و1970 في الأردن، فحرب تشرين عام 1973 بين العرب وإسرائيل مجدّداً. وفي هذه الحرب استعادت مصر وسوريا بعض ممّا خسرتاه من أراضيهما عام 1967 يوم شنّت تل أبيب الحرب عليهما.

كان انقسام اللبنانيين بين منحاز إلى الفلسطينيين وقضيّتهم، وداعٍ إلى الحياد وحفظ استقلال لبنان بذرةً أينعت حرباً أهليةً بعد حين واندلعت يوم 13 نيسان عام 1975. حينها كان حياد لبنان انحيازاً لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، وانحيازه خطيئة لدى شريحة أخرى.

السير بين الموقفين لم يكن إلا واحداً من أسباب حرب أهلية اندلعت منتصف السبعينيات واستمرّت حتى عام 1990. خلال الحرب الأهلية هذه، كان انحياز لبنان، أو شريحة واسعة من اللبنانيين، إلى صفّ الفلسطينيين سبباً رئيساً في اجتياحه من قبل العدوّ الإسرائيلي واحتلال عاصمته بيروت عام 1982. وقبل ذلك بأعوام، كان احتلال جزء غالٍ من جنوبه عام 1978، وبقي محتلّاً حتى عام 2000، ولا يزال جزء منه يرزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي حتى اللحظة.

نحن الآن في وسط أزمة تشبه 1958 و1969 و2005. والأمل أن نخرج بأقلّ الخسائر الممكنة. لأنّ تاريخ “التغييرات” الكبرى في لبنان، لا يطمئن

تاريخ يعيد نفسه: مرّة مأساة وأخرى مهزلة

يقول كارل ماركس إنّ “التاريخ يعيد نفسه. في المرّة الأولى كمأساة. وفي المرّة الثانية كمهزلة”. وإذا كانت المأساة ضربت لبنان عام 1958، فمنذ عام 1990 تاريخ استتباع لبنان رسمياً من قبل النظام السوري، وتنسيق سياسته الخارجية بما يوائم انزياح نظام حافظ الأسد الأب واصطفافه إلى جانب أميركا في حرب العراق، انتفى كلّيّاً أيّ دور للبنان في السياسة الدولية. كانت السلطة فيه بوقاً شبه رسمي لنظام الأسد (والابن بشّار لاحقاً) ومواقفه وتحالفاته، وهذه هي المهزلة.

هذا الانحياز أو هذا الاصطفاف يدفع ثمنه لبنان منذ عام 2005 تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي سعى إلى رسم سياسة خارجية تحفظ لبنان وتركيبته بين الدول وفي العالم. … ودفع الثمن غالياً، فاغتيل وأصيب لبنان إصابةً بالغةً لا يزال على إثرها في العناية الفائقة حتى اللحظة.

بُعيد انسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان من عام 2005 زمن الأسد الابن الذي آلت إليه السلطة إثر وفاة والده عام 2000، وعقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فقد تسلّم “الحزب” مكانه مدجّجاً بسلاحه واصطفافه الإقليمي منفّذاً سياسة الجمهورية الإسلامية في إيران، في المنطقة والعالم. وهذا ما جرّ عليه حرباً استمرت 33 يوماً عام 2006 دمّرت البلد. والحرب وقعت بعدما تجاوز “الحزب” في شهر تموز الخطّ الأزرق منفّذاً أسر جنديّين ليبادلهما بمعتقلين لبنانيين في السجون الإسرائيلية. ثمّ ما لبث تاريخ اهتزاز البلد أن وقع جرّاء تحالفاته الإقليمية.

يقول كارل ماركس إنّ “التاريخ يعيد نفسه. في المرّة الأولى كمأساة. وفي المرّة الثانية كمهزلة”

7 و8 تشرين الأوّل… طوفان النّهاية

جرّاء التحالفات الإقليمية وتنفيذاً للشعار السياسي “وحدة الساحات” الذي رفعه حلفاء إيران، دخل “الحزب” في حرب “مساندة لغزة” يوم الثامن من أكتوبر (تشرين الأول 2023) بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة حماس يوم السابع من أكتوبر، وأدّت إلى شنّ إسرائيل حرباً مدمّرة على لبنان، في أيلول من عام 2024. وكان من نتيجتها أن تدمّر جزء كبير من جنوب لبنان وضاحية بيروت والبقاع وبعلبك. عليه زُجّ بلبنان في أتون صراع إقليمي ودولي واعتداءات إسرائيلية في أقصى جنوبه يُقال إنّها ستنتهي يوم 27 كانون الثاني من العام الحالي.

بعد الحرب ارتفعت الأصوات التي تنادي بالحياد والتحييد مجدّداً أبرزها كان في تموز من العام 2020، ولخّصها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي قدّمها إلى الاجتماع السياسي اللبناني بصيغة “حياد” ما صدع لبنان بين فريقين: الأوّل طالب حرب، والآخر تمسك بما قاله الراعي.

مفاجأة البطريرك وضعت البلد على فوهة بركان سياسي انقسامي ما اضطره إلى استدراك طرحه السياسي بأن أضاف “الإيجابي”. هذه الإضافة أعادت إلى السياسة بعضاً من صوابها.

على اعتبار أنّ “الحياد الإيجابي” وقعه أخفّ، كونه يعني أنّ لبنان ليس مفصولاً عن القضايا المركزية والاجماع العربي ولا عن القضية الفلسطينية. وذلك بعدما كان هذا الخطاب ممنوعاً ومُحاصّراً قبل تلك الحرب. وارتفعت شعبيّته، خصوصاً بين من كانوا يظنّون أنّ سلاح “الحزب” يحمي لبنان عسكرياً. ركنت الحياة السياسية إلى المصطلح الاستدراكي الذي اعتمده البطريرك الراعي. لكن خطاب قسم رئيس الجمهورية جوزاف عون في 9 كانون الثاني من العام الحالي أورد فيه مفردة “الحياد الإيجابي”، ولاقت قبولاً.

إقرأ أيضاً: مراجعة شاملة…. بين بيروت وبغداد وطهران

بدا مجدّداً أنّ هذا الخطاب مقنعاً. وأنّ الحياد وحده يمكن أن يكون ضمانة لبنان ووسيلته للحفاظ على تركيبته وفسيفسائه الاجتماعية والحضارية والثقافية. وكلّ انحياز إلى غير الشرعية الدولية ومواثيق وقرارات هيئة الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان، لا يجرّ عليه سوى الويلات والحروب والانهيار الاقتصادي. ولنا عبرة في شبه الانهيار الاقتصادي الذي يئنّ لبنان واللبنانيون تحت وطأته منذ عام 2019.

نحن الآن في وسط أزمة تشبه 1958 و1969 و2005. والأمل أن نخرج بأقلّ الخسائر الممكنة. لأنّ تاريخ “التغييرات” الكبرى في لبنان، لا يُطمئن.

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

الترامبية: عندما يُجلد القاضي ويُطلق السّفّاح؟

لا يكفّ دونالد ترامب عن إدهاش العالم وإفزاعه. لا يشبه أحداً ممّن سبقوه. ظاهرة في الحكم قد تصير مثالاً لطامحين كثر يملكون مثله شهوة السلطة…

عشرينيّة 14 شباط: الثّأر السّياسيّ بانتظار نضوج التّحوّلات

كثيرة هي المتغيّرات التي أحاطت بإحياء الذكرى العشرين لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. بإمكان تيّار “المستقبل” وجمهوره الانتشاء بالتحوّلات الكبرى التي سبقت ورافقت ذكرى 14…

رفيق الحريري.. وكأنّه الوداع الأخير

انتهت الحريرية السياسية يوم اغتيال رفيق الحريري، وكلّ زعم بعد ذلك هو من قبيل النهل من الميراث. لم يخرج تعبير “الحريريّة” إلّا بعد غياب صاحبها….

تلك الأيّام في بيروت

عند العاشرة صباحاً، دخلت قصر بعبدا لأوّل مرّة في حياتي، لأسلّم الرئيس إميل لحّود رسالة من ياسر عرفات، وكان معي سفيرنا في الأردن السيّد عطا…