الجولاني الجديد على “CNN”..

مدة القراءة 6 د

أعربت واشنطن عن قلقها من مشاركة “هيئة تحرير الشام”، المصنّفة إرهابية، في الهجوم الشامل الذي شنّته فصائل المعارضة المسلّحة قبل أيام. بدا هذا المدخل ضروريّاً لصبّ هجوم على نظام الرئيس بشّار الأسد في دمشق، وتحميله مسؤولية هذا الانهيار الذي وصلت إليه سوريا. بالمقابل، تركّز دمشق وطهران وموسكو سرديّاتها على تعرّض سوريا لهجمات الجماعات الإرهابية. وهي المداخل التي استخدمت قبل ذلك لتبرير تدخّل روسيا و”حرس” إيران وفصائلها الموالية، ومنها “الحزب” من لبنان. تقاطعت تلك المداخل حينها مع حملة تحالف دولي ضدّ تنظيم داعش والإرهاب في المنطقة… لكنّنا أمام “الجولاني الجديد”. فهل يتغيّر موقف أميركا والعالم؟

 

وسم “الإرهاب” هو قرار كيفيّ يحدّده مزاج سياسي يتبدّل ويتطوّر وفق ما تقرّره الظروف والمصالح. أسقط قرار سياسي صفة الإرهاب عن “الجيش الجمهوري الإيرلندي”، وتمّ معه إبرام اتفاق “الجمعة العظيمة” في بلفاست عام 1998. وأزال قرار سياسي “منظمة التحرير الفلسطينية” عن لوائح الإرهاب، واستقبلت عواصم غربية زعيمها بعدما فتحت له باريس الأبواب عام 1989. خرجت “حركة طالبان” من تلك اللوائح، وباتت محاورة للولايات المتحدة حتى تسلّم الحكم في أفغانستان عام 2021، واللائحة تطول.

يظهر “الهراء” السياسي بنسخته السوريالية في قرار واشنطن، في الأيام الأخيرة لولاية دونالد ترامب الأولى، عام 2021، وضع “جماعة الحوثي” في اليمن على لوائح الإرهاب، وتصبح وفق القرار تنظيماً تجوز ضدّه كلّ الموبقات، ثمّ تُرفع عن هذه اللوائح بعد أيّام فقط بقرار من إداره خلفه جو بايدن. وإذ يتّبع أبو محمد الجولاني خريطة طريق تزيل عنه صيت الإرهاب مضموناً وشكلاً، ويعود للظهور باسمه الأصليّ المدنيّ، وتستضيفه “حصريّاً” شبكة CNN الأميركية، فإنّ مزاجاً سياسياً مستجدّاً يوحي بأشياء كثيرة.

تحوّل دوليّ كبير حيال سوريا

سندرك يوماً أنّ التحوّل الذي يجري في سوريا هو نتاج تحوّل دولي حيال مقاربة المسألة السورية من جهة، والمسألة الإيرانية من جهة أخرى.

يتحدّث الجولاني – الشرع عن حكومة تقوم على “مجلس شعب منتخب”. سعى إلى أن يؤكّد أنّه تغيَّر

فقد جرى منذ عام 1979 التعامل مع الجمهورية الإسلامية وتمدّدها داخل المنطقة العربية وفق سياسات احتواء قامت على القبول بأمرها “الثوري” والسعي إلى الشراكة معها. مارست دول الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، سلوكاً “متفهّماً”، لا سيما إثر لحظة الاعتداءات الإرهابية على نيويورك في 11 أيلول 2001، قاد إلى إبرام صفقة “اتفاق فيينا” النووي عام 2015 مع ما احتاج إليه ذلك من تسليم بسطوة طهران على “العواصم الأربع”.

الجولاني

جرى منذ بداية الصراع في سوريا عام 2011 أن قام إجماع دولي عامّ، تباينت لهجاته، على عدم سقوط بشار الأسد ونظامه. استُثنيت سوريا ممّا خيّل أنّه قدر أصاب مصر وتونس وليبيا والعراق واليمن. كانت إسرائيل صاحبة قرار في هذا الشأن داخل إدارات واشنطن لعدم تعريض نظام تعرفه للخطر مقابل بدائل مجهولة قد تهدّد سكينة الجولان منذ عام 1973. كان النظام نفسه يعرف باكراً محوريّة العامل الإسرائيلي في تقرير مصيره. خرج رامي مخلوف، ابن خال الأسد في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، في أيار 2011، يحذّر من أنّه “لن يكون استقرار في إسرائيل” إذا لم يكن في سوريا استقرار.

قطع ممرّ طهران-بيروت “أوّلاً”؟

سقطت عناوين مرحلة وبات مطلوباً إقفال “ممرّ طهران – بيروت” الشهير، بما يعني إخراج “الحالة” الإيرانية من سوريا. بات مطلوباً أيضاً معالجة المسألة السورية التي تجاهلتها إدارة بايدن في واشنطن على نحو مفرط واعتبرتها هامشاً. وفيما لم يصدر عن أيّ عاصمة هذه الأيام دعوة إلى إسقاط النظام في سوريا، فإنّ تقاطع حسابات يظهر بشكل فجّ بين واشنطن وموسكو وأنقرة يدفع باتّجاه إحداث تغيير ما، يضعف طهران والنظام الذي تدافع عنه في دمشق.

يقدّم زعيم “القاعدة” سابقاً في سوريا أوراق اعتماد جديدة لسوريا والسوريين. يلمّح إلى تفكيك “الهيئة”. يعتبرها “وسيلة” لمواجهة النظام

هنا ستراجع كلّ العواصم علاقتها بالمعارضة السورية، وستعيد النظر في تقويمات باتت متقادمة لطبيعة الفصائل التي تتقدّم بسرعة عجائبية صوب دمشق. يخرج أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) إلى المشهد السوري بلهجة الواثق بأنّه ملتزم بوحي العواصم وإيماءاتها. تقدّمُه الـ CNN بصفته “زعيم تحالف المعارضة السورية”. يختار الرجل من على منبر أميركي شهير كلماته بعناية. قبل 45 عاماً، وعلى نحو لافت، أخرج الإعلام الغربي روح الله الخميني من الظلّ تمهيداً للعب الدور الذي نعرفه.

يتحدّث الجولاني – الشرع عن حكومة تقوم على “مجلس شعب منتخب”. سعى إلى أن يؤكّد أنّه تغيَّر. بات أكثر نضجاً، بحكم العمر والتجربة، حسب قوله. سبقت المقابلة أنباء عن قرار بتعامل المقاتلين بالحسنى مع المواطنين جميعاً، لا سيما المنتمين إلى الأقلّيات. خاطب قبل أيام السوريين (والعالم من خلفهم) متحدّثاً عن “الفتح لا الثأر”. قال للقناة الأميركية إنّ “الطوائف تتعايش في هذه المنطقة منذ مئات السنين، ولا يحقّ لأحد القضاء عليها”.

أوراق اعتماد للسّوريّين… والغرب

يقدّم زعيم “القاعدة” سابقاً في سوريا أوراق اعتماد جديدة لسوريا والسوريين. يلمّح إلى تفكيك “الهيئة”. يعتبرها “وسيلة” لمواجهة النظام، وأنّها ليست سوى “جزء من الحوار” لبناء سوريا. يقدّم أحمد الشرع خطاباً سوريّاً غير عابر للحدود، متخلّياً عن أحلام “الخلافة”، مطالباً بخروج القوات الأجنبية من بلاده. يخطو الرجل خطواته بعناية وحنكة. وحين تجول في خاطره تجارب تعويم من اعتبرهم العالم يوماً إرهابيين، يعتقد أنّه لا يخطو في فراغ.

إقرأ أيضاً: الجولانيّ: من “الموصليّ” الرّاديكاليّ إلى “الشّرع” البراغماتيّ

يستبق الجولاني تقدّم قوّاته. غير أنّ كلام الكرّ والفرّ، وغبار المعارك، تطيح به حسابات “لعبة الأمم”. يعرف أنّ لِما تحقّق عسكرياً روائح قرار دولي أزال محرّمات سابقة. وربّما يدرك أيضاً أنّ شراكات عليا في إنجازاته ستفرض عليه قواعد اللعبة الجديدة، وأن ليس بالضرورة أن يكون رجل المرحلة الحالية رجل المرحلة المقبلة… لكنّه أيضاً قد يكون.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

صرت أكره مفردة النصر

أبدأ مقالتي بكلمات لشاعر مجهول وكانت نُسبت لمحمود درويش قيلت قبل سنوات وكأنها تصف ما يحدث في يومنا هذا. تنتهي الحرب ويتصافح القادة..  وتبقى تلك…

عون – سلام: نهاية 50 عاماً من الوصاية

انتصرت سوريا فتغيّر لبنان. تساعد هذه العبارة التي تتألّف من أربع كلمات في فهم ما يجري في لبنان. بدءاً بانتخاب رئيس للجمهوريّة هو العماد جوزف…

إلى محمد رعد: نخلعُ جُرحَنا ونمسحُ القهرَ

في عيون النائب محمد رعد ما لا تشرحه كلّ لغات الأرض. أطلّ من قصر بعبدا وفي خاصرته ما يشبه الرمح أو الخنجر. حاله في ذلك…

هل تنجح أنقرة في إقصاء ورقة داعش السّوريّة؟

يريد البعض أن يضع “هيئة تحرير الشام” و”قسد” و”حزب العمّال الكردستاني” و”داعش” في سلّة تفاوض ومساومة سياسية واحدة، وعقد صفقة تعطيه ما يريد في “حكاية…