سقط “الدّوحة”… قام “الطّائف”

مدة القراءة 8 د

السابع من 27 تشرين الثاني، تاريخ دخول اتّفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل حيّز التنفيذ، هو تاريخ مزدوج: الأوّل هو سقوط اتفاق الدوحة الذي كرّس أعرافاً على الدستور. أمّا الآخر فهو تاريخ القيامة الجديدة لـ”اتّفاق الطائف” ومعه كلّ نصوصه، سواء منها تلك التي ترضي بعض قوى البلد، أو غيرها ممّا تحتجّ عليه قوى أخرى حاضرة ووازنة سياسياً وشعبياً في لبنان.

 

أعادت الحرب الإسرائيلية، الناجمة عن مساندة “الحزب” لغزة حيث حماس، البلد إلى اختبار الأهليّة في بناء الدولة استناداً إلى “اتفاق الطائف”، بعدما أمعن “اتفاق الدوحة” في شطب الأوّل ومفاعيله الديمقراطية وسمح بطغيان “قوّة السلاح” على النصّ الدستوري. عمليّاً يمكن إدراج “وقف إطلاق النار” لمدّة 60 يوماً كمهلة اختبار لجهوزيّة الدولة اللبنانية أهلاً ومؤسّسات.

اختلالات “اتّفاق الدّوحة”

يفترق كثيراً اتّفاق الدوحة عن مثيله وسابقه اتفاق الطائف. الأوّل كرّس أعرافاً وألغى نصوصاً دستورية تعلو على القوانين. عكس في سياقه أوزان قوى قائمة ومتحكّمة في البلد. ألغت مضامينه مصارحة ومصالحة تاريخيّتين بين اللبنانيين. الاثنتان انعقدتا في مدينة الطائف السعودية. حاول جاهداً الارتكاز على وقائع قائمة أقلّها هيمنة السلاح وإعطاء فئة من المسلمين درجة بالنظام.

اتّفاق الدوحة مسح ما قبله، وهو تاريخ طويل من العمل على تثبيت الدولة بكلّ مكوّناتها. جاء بُعيد الثامن من أيار يوم احتلّ “الحزب” بيروت والجبل. للأمانة حاول جاهداً الخلاص وإنهاء أزمة لبنانية. بعده صار جزء وازن من لبنان مهجوساً من “نتائجه الإيجابية”. كان سياقاً فيه الكثير من الكذب على اللبنانيين وحياتهم الدستورية. حمل استعارةً من صراع “الكتلة” والدستوريين في النصف الثاني من القرن العشرين الماضي. الاستعارة هذه أُتخمت بجهل وكذب لا يُصدّقان وفيهما انحراف شديد للحياة السياسية.

عمليّاً “الضعف” اللبناني الدستوري كان وثيق الصلة بـ”فكرة المقاومة”، وهو ما جعلها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطبيق “اتفاق الطائف”

أسهم اتفاق الدوحة في تصديع قوى 14 آذار. شدّ من أزر قوى 8 آذار المتوزّعة الولاء بين سوريا “البعث” وبين إيران جامعة الولايتين: “ولاية أهل الأمّة” و”ولاية الفقيه”. الأولى يُعمل بها خلال السلم والاستقرار، وأمّا الثانية فتقوم مقام الأولى وتكون بيد “الوليّ المُرشد” في زمن الحرب. كان يحمل أيضاً تمثيلاً لحضور الخارج ومعه تفاعلات الداخل الوطني، والأخيرة عكست اضطراباً استدعى هذا الاتّفاق الذي غلّب السياسة على الدستور.

اتفاق الدوحة جعل من “الحزب” هو الحدث الوطني وجوهر الحياة السياسية اللبنانية. وحول هذا الحدث والحياة تشكّلت الموالاة والمعارضة. كان شأن الموالاة والمعارضة واحداً. الأولى نهضت على مصالح خاصّة وبينيّة مع “الحزب”. كذلك كان حال المعارضة التي تنهض على مصالح وأوزان يمنحها “الحزب” من “باب التقيّة السياسية”. ثمّ جاءت “حرب الإسناد” وكانت مفاعيلها على الفريقين سواسية.

ميزات “اتّفاق الطّائف”

اتّفاق الطائف الذي شلّهُ الوجود السوري السياسي الاستخباري والعسكري، ثمّ عطبه النفوذ الإيراني عبر ذراعه وتعريفها “الحزب”، كان يتطلّع إلى دولة، مُغادراً حرباً ضروساً بين خارج تقاتل عليه ومن أجله اللبنانيون. التطلّع كان في النصوص الدستورية والمقدِّمة الإصلاحية التي حملها.

“الطائف” ثلاثيّ الأضلع:

– أعطى المسيحيين ما كان يقلقهم من ذوبان الكيان مع المحيط الإسلامي الأوسع، فنصّ على “نهائية الكيان”.

– “طمأن” المسلمين القلقين من “فينيقية” و”تغريب” يحاولان الانبعاث مجدّداً ويقطعان وطنهم عن بقيّة المحيط، فنصّ على “عروبة الكيان” وفقاً لنظام المصلحة اللبنانية.

– كرّس ما خبره اللبنانيون لعقود من “عيش مشترك”، فكان النصّ أن “لا سلطة لأيّة صيغة تناقض العيش المشترك”. وهذه الأخيرة هي ما تجاوزها “اتفاق الدوحة” بأن جعل صوابه السياسي هو “أوزان القوى” و”الثلث المعطِّل”.

اتّفاق الطائف الذي شلّهُ الوجود السوري السياسي الاستخباري والعسكري، ثمّ عطبه النفوذ الإيراني عبر ذراعه وتعريفها “الحزب”، كان يتطلّع إلى دولة

كان يحكم “اتفاق الطائف” التصويت الديمقراطي والغالبية البرلمانية. ذلك كان عكس “اتفاق الدوحة” الذي أقرّ حقوقاً لـ”ثلث مُعطِّل” مذهبي ومناطقي لا يعكس في تشكيله تلاوين “الطيف اللبناني” بكلّ مكوّناته. وإلى إقراره وتكريسه حقوقاً كالاعتقاد والملكيّة والحرّيات الفردية والسياسية وطبيعة النظام، ومنها اللامركزية الإدارية الموسّعة، فقد بدا على الدوام أنّ الصيغة المطروحة فيه مرتبطة بـ”حياة الدولة” المُحدّثة لصيغتَي عامَي 1920 و1943، أي لحظة تشكيل “لبنان الكبير”، ولحظة نيل الكيان “الاستقلال” عن الانتداب الفرنسي.

اتفاق الطائف

يفيد “اتفاق الطائف” في مفاضلته مع “اتفاق الدوحة” أنّه يقرّ للأوّل بما كرّسه على مستوى الحقوق، مقابل الآخر الذي كرّس موازين قوى خارجة عن مراعاة التكوين الأهليّ والتمثيليّ والمناطقيّ للبنان الدولة والبلد والشعب. الأوّل من خلال تفضيله لقانون انتخابات تمثيلي وعصري يتقدّم على الثاني الذي أدخل بفعل أرجحية قوى “8 آذار” قانوناً هجيناً أتاحت فيه النسبية لمكوّن “الحزب” أن يخترق بيئات أخرى من دون أن تستطيع هذه ولوج بيئة “الحاكم بقوّة السلاح”. والأوّل ألغى بلا هوادة أكثرية النصف زائداً واحداً ووضع مكانها “التوافق” مع المكوّنات والوقائع. وهي في هذا الحال: “الحزب” وأرجحيّته العسكرية التي كانت دائماً تتغلّب على ما عداها.

لبنان الأهل وصراعاتهم

عمليّاً “الضعف” اللبناني الدستوري كان وثيق الصلة بـ”فكرة المقاومة”، وهو ما جعلها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطبيق “اتفاق الطائف”، الأمر الذي أصاب الجمع الأهليّ وتوازناته بعجز عن المبادرة، علاوة على أنّ بعض “السياديين” عارض من موقع المصلحة ليؤكّد حضوراً داخلياً بمواجهة غرمائه.

أعادت الحرب الإسرائيلية الناجمة عن مساندة “الحزب” لغزة، البلد إلى اختبار الأهليّة في بناء الدولة استناداً إلى اتفاق الطائف

كما كان “الضعف” مرتبطاً بحجم البلد وتنوّعاته الأهليّة من مسيحية ومسلمة، وبتوزّعها بين “قوى” متنوّعة الأهواء والميول السياسية، إضافة إلى استدعاء كلّ منها لخارج ما تستقوي به على الداخل اللبناني ككلّ. هكذا تمّ القفز عن “اتفاق الطائف” وتمّ تخطّيه والتنازل عنه ليُصار الآن إلى إعادة الاعتبار والاختبار له.

الخوف الآن على الطائف مصدره الخشية من وقوع الاتفاق بين ظلم “الطوائف”، فيصبح هو المظلوم وأهل البلد هم الظالمين. فالبلد مليء بأطراف سياسية أيديولوجيّة. والأوطان لا تبنى بالأيديولوجية: انهيار المعسكر الاشتركي يقول ذلك. ويقوله أيضاً كلّ تاريخ الدول الدينية. المفردات “السياسية والأيديولوجية” للجماعات الأهلية يصعُب إحصاؤها. كما يستحيل قياسُها. تبقى قوّتها في الحضور طاغية على ما عداها.

في حالة لبنان حيث “الحزب” هو الطاغي بسلاحه، فقد تشكّل عند اللبنانيين “فائض خوف وجبن” تستحيل معه أيّ مواجهة دستورية. تسيّدت معه الكليشيهات بوصفها أقدر على تعبئة بيئته، و”استثارة المظلوميّة” تعود إلى “سرديّات مذهبية” تُغطّي أحوال المذهب وما يُعتبر “أقداره”. وعن هذا الوعي “المُفتعل” ينشأ جوٌّ مشحون يُخشى منه على سلم الدولة وأهلها الآخرين.

الآن صار اللبنانيون مجبرين على اختبار “محنة الطائف” لإعادة الاعتبار إلى الاتفاق الدستوري الذي اتُّفق عليه في المملكة العربية السعودية، بحيث يستحيل العودة إلى مفردات الحرب الأهلية. آنذاك سُمّي “أهل اليمين” وهم يتشكّلون من غلبة مسيحية بأنّهم “انعزاليون”، وسَمَّت جماعة أهليّة غلبتها مُسلمة نفسها بـ”التقدمية” وهي ترتدي ثوب اليسار.

الخوف الآن على الطائف مصدره الخشية من وقوع الاتفاق بين ظلم “الطوائف”، فيصبح هو المظلوم وأهل البلد هم الظالمين

هكذا على اللبنانيين تجنّب صراع متن اللغة ومفرداتها، واستحضار “اتفاق الطائف” وبعثه مجدّداً وإعادة الاعتبار إليه كنصّ دستوري. والخشية هي من جماعة أهلية اختزلها “الحزب”، تُطالب بما يُسمّى “توقيع رابع” بعد توقيع رئيس السلطة التنفيذية، ورئيس الحكومة والوزير المختصّ.

يواجه هؤلاء “مسيحية سياسية” تعتبر أنّ “اتفاق الطائف” أنزلهم درجة بالنظام وأعطى المسلمين مقابلهم درجة بالنظام. وهؤلاء لا يراجعون اتفاق الطائف على أنّه اتفاق مصارحة ومصالحة مع نظرائهم من الجماعات الأهلية، بل يقوِّمونه من معطى “صلاحية رئيس الجمهورية”.

إقرأ أيضاً: لبنان “صندوق بريد” بين إسرائيل وإيران

في هذا الانقسام وحدهم “أهل السُّنّة” لديهم ما يقولونه: تطبيق اتفاق الطائف كما هو على أن يُنظر لاحقاً إلى شوائبه ويتمّ إصلاحها. ووحدهم يعصف بهم “الحسد” حيال روّاد الاشتباك الأهليّ ممّن يتربّع “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” و”الحزب” في صدارتهم.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

عزّ الشرق أوّله دمشق..

ساحة الامويين علم الثورة عليها انكسرت عصا سليمان التي يتّكئ عليها، فظهر أنّه ميتٌ من زمان. سقط نظام بشار الأسد، وبسقوطه اكتمل سقوط المحور الإيراني….

إنّا من العرب… وإنّا إليهم راجعون

لجرحنا الغائر في سوريا صوتٌ كصرير الأسنان، وهو جرح قديم ورهيب ومستدام، يسبق الفجيعة بشطب رفيق الحريري ويعقبها. حتى بات ربيع بيروت ينتظر أوان الورد…

كيف ستتلقّف المعارضة نقمة العلويّين على الأسد؟

أخيراً، غادرنا صاحب الضحكة البلهاء، والقرارات الخرقاء والخطابات الجوفاء والأفكار الهوجاء، التي حوّلت قلب العروبة النابض إلى صحراء… انسحب بعدما جعل سوريا، الدولة المحوريّة، بحراً…

اللّحظة السّوريّة”: ما المطلوب خلال ساعات؟

فيما بدت عواصم العالم حذرة في مقاربة الحدث السوري الكبير، سحب بنيامين نتنياهو كرسيّاً، جلس إلى طاولة التسوية السورية، فارضاً إسرائيل شريكاً حاضراً في مستقبل…