الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

مدة القراءة 7 د

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام

عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح

يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي وبينهم مافيش

تعارف يخلّي التحالف يعيش… تعيش كلّ طايفة من التانية خايفة

وتنزل ستاير بداير وشيش… لكن في الموالد بتنلم صحبة ونهتف يعيش”

(أحمد فؤاد نجم)

 

كنّا منذ بضع سنوات نحاول بناء شبكة من الليبراليين العرب بالاستناد إلى مبدأ الحرّية الفردية المرتبطة أساساً بالأمور السياسية ومواجهة التسلّط في الحكم ونشر منطق التداول السلميّ في الحكم وحماية الأقلّية من طغيان الأكثرية، ومواجهة الفساد من خلال نشر مبدأ المحاسبة، إضافة إلى تحرير الاقتصاد من سلطة الأقلّية وتحويله إلى اقتصاد حرّ يعطي الفرصة للجميع للمشاركة في فعّالياته.

كان الخلاف قائماً بشكل دائم مع شركاء دوليين في المشروع لعدّة أسباب. الأوّل هو أنّ هؤلاء الشركاء كانوا يأتون على أساس كونهم موجّهين وناصحين من موقع الأخ الأكبر، فكان الجواب من بعضنا هو أنّ تجربة بلدانهم وتاريخها كما تقاليدها قد تعطيهم القدرة على إسداء النصح فحسب، وفي بعض الأمور النظرية لا غير، لكن لا يمكنهم أن يتحوّلوا إلى عرّابين وموجّهين، فأهل الأرض أدرى بشعابها. الخلاف الثاني كان دائماً حول فلسطين وموقف الليبراليين عموماً من إسرائيل، بناءً على مقولة إنّها دولة ديمقراطية وليبرالية، في حين أنّ موقفنا كان دائماً أنّها دولة عنصرية، وبالتالي لا يمكن اعتبارها ليبرالية وإن كانت تمارس في الحكم نوعاً من الديمقراطية العنصرية. كما أنّ تسويغ احتلال أرض الغير بالقوّة وانتهاك حقوق الأفراد بمختلف أنواعه أمر يناقض كلّ المبادئ التي بنيت عليها الليبرالية.

أحد الأسباب المعروفة لسقوط الديمقراطيين هو كونهم صاروا بالنسبة لفئات واسعة من الأميركيين طبقة متعالية تستهتر بالعموم وتقاليدهم وطريقة حياتهم

أمّا الخلاف الثالث فقد كان يستند إلى الأولويّات في طرح الأمور، ففي حين كانت أولويّاتنا كعرب كبح جماح المتسلّطين على السلطة وفتح باب الرزق الحرّ للناس مع تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية، فقد كان طرح الشركاء الغربيين يدور حول الدين والمثلية الجنسية. مع الوقت، اكتشفت أنّ معظم التوجّهات من تلك “الإرساليّات” الليبرالية، حتى وإن كانت جادّة، تستهدف ضرب بناء الاجتماع القائم في المنطقة على تراكمات تاريخية واجتماعية وتقاليد وأساطير وتعابير، من دون فهم للأولويّات التي تسمح بتغيير متأنٍّ مبنيّ على تطوّر في البنى الاقتصادية والاجتماعية من دون إحداث فجوات تأسيسية تمنع البناء على أرضية صلبة.

بالمحصّلة، لم نصل إلى أرضية مشتركة، وبقي النقاش محصوراً بالمسائل النظرية، من دون القدرة على التحوّل إلى عمل سياسي جادّ يمكن طرحه على الناس، ثمّ تحويله إلى تيار سياسي يمكنه أن يصل إلى الحكم ولو في مجلس بلديّ. كان جدلي شخصيّاً أكثر حدّة مع بعض المشاركين العرب الذين كانوا يستهلّون حديثهم باعتبار الدين والتقاليد هما السبب الرئيسي لتخلّف العرب، كما استكبار معظمهم على عامّة الناس ونعتها بالجهل.

في كلّ الأحوال، كان كلّ فرد من الليبراليين العرب ينافس آخر مثله في بلده، ويتّهمه بالرجعية أو النفاق وخدمة الحكّام… مرض يصيب الليبراليين مثلهم مثل العقائديين. بالنهاية اليقينيّات المسبقة والحلول المفروضة على أرض لا تحمل المعايير ذاتها التي استند إليها المنظّرون والاستكبار الفاضح لدى طارحي الحلول، عرباً وغيرهم، منعت هؤلاء من التجمّع والاجتماع على خيار سياسي يمكنه أن يحدث أيّ حراك يذكر، وبقي محصوراً في الجلسات الثقافية المغلقة.

بعدها، انفرط عقد الشبكة، بعد كمّ من الأموال التي صرفت للسفر والأكل والشرب والفنادق، وسبقت الأحداث كلّ حديث عن تغيير سياسي اجتماعي، بعدما حلّت الرجعيّات غير الليبرالية مكان الداعين إلى الحرّية والمساواة في معظم بلدان الغرب الليبرالي، وآخرها عودة الشعبوي دونالد ترامب إلى السلطة على الليبرالية.

خلق هذا النهج المتعالي والمستكبر شرخاً اجتماعياً وفكرياً مع عموم الناس، وهو ما أعاق انتشار فكر الحرّية مع كلّ محاسنه

فلسفة الحرية وانقلاب المثقفين

من الناحية النظرية، تفترض فلسفة الحرّية التسامح وقبول التعدّدية وإمكانية التعايش والحوار مع أكثر الأفكار اختلافاً، لكنّ الكثير من حاملي هذا الفكر انقلبوا على ذاتهم، فبعض سلوكهم سعى إلى إلغاء الآخر، أو فرض رؤاهم بمختلف وسائل الإكراه، وحتى قد تستعمل كلّ أشكال ما يسمّى القوّة اللطيفة لفرض هذه الرؤى في الإعلام والتعليم والتربية والترغيب. هذا النهج المنقلب على ذاته يضمّ بعضاً من مختلف أنواع الفكر الحرّ، من كلاسيكية إلى اجتماعية إلى مستحدثة، لدرجة أنّه يمكن نعتها بالليبرالية العنصرية! والعنصريّ هنا يضمّ من يعتقدون بنهائية أفكارهم وانتصارها الحتميّ إلى درجة افتراض نهاية التاريخ بعد هذا الانتصار.

خلق هذا النهج المتعالي والمستكبر شرخاً اجتماعياً وفكرياً مع عموم الناس، وهو ما أعاق انتشار فكر الحرّية مع كلّ محاسنه. وقد سهّل ذلك أيضاً استهدافه ووضعه في موقع الشرّ المطلق من قبل أصحاب الأفكار المضادّة من خلال ربطه بسياسات الاستعمار والهيمنة والخلاعة وانتهاك الخصوصيّات والمقدّسات.

لقد أدّى ذلك إلى انطواء هذا النهج والفكر ضمن مجموعات من النخب، لا ترابط فيما بينها في كثير من الأحيان، وذلك لأسباب شتّى. هذه النخب متّهمة بالكفر والإلحاد وانعدام الشعور الوطني والانحلال والغربة عن الواقع والعجرفة وبعض الأحيان الجنون.

حصرية المعرفة عند المفكرين

بالنسبة للعالم العربي بالإجمال، فإنّ الأفكار الحرّة منتشرة بشكل كبير بين النخب الثقافية، لكنّ إصرار معظم حاملي هذا الفكر على أنّهم “المتنوّرون” الوحيدون و”العقلاء” الوحيدون، وازدراءهم بالمعتقدات والموروثات والتقاليد إلى درجة الاستعداء، وعدم قدرتهم على مخاطبة الناس بلغة مبسّطة تتناسب مع ثقافة العامّة، إضافة إلى التنافس والتنابذ الحادّ القائم بين أقطاب هذا الفكر، أبقى هذا الفكر في عزلة وضعف على الرغم من جاذبيّته.

نتائج هذه الانتخابات وسيلة اعتراض وصفعة من قبل الناخبين قد تعيد النخب الثقافية في أميركا إلى الأرض

بالعودة إلى نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومعها خيبة أمل النخب الأكاديمية التي ظنّت أنّها تسيطر على العامّة، فإنّ أحد الأسباب المعروفة لسقوط الديمقراطيين هو كونهم صاروا بالنسبة لفئات واسعة من الأميركيين المتوسّطي الثقافة والتعليم، وهم أكثرية الأميركيين، طبقة متعالية تستهتر بالعموم وتقاليدهم وطريقة حياتهم، من أبسط تفاصيلها إلى أكثرها تعقيداً. من الأمثلة الهامشية، لكن ذات الدلالة العميقة، اعتبار المشروبات الغازية التقليدية مثل الكوكا كولا وأخواتها مشروب العامة، في حين تتحاشاها النخب وتستعمل أنواعاً خاصة من المشروبات ثمنها عدّة أضعاف مثيلاتها العامّة. ثمّ تأتي المسائل المرتبطة بالدين والأساطير والموقف من التحوّل الجنسي والمثلية والإجهاض وطبيعة التربية في المدارس إلى نوعية الفنون والأكل والمطاعم…

هذا ما خلق ردّة فعل منطقية حتى من قبل الفئات التي يدّعي الديمقراطيون خدمتها من خلال سياسات الرعاية الاجتماعية التي تميّز حكمهم عادة لدرجة أنّ الجمهوريين يسمّونهم شيوعيين.

إقرأ أيضاً: رئيس أميركا الجديد: حليف داود ويشوع.. والمقلاع

نتائج هذه الانتخابات وسيلة اعتراض وصفعة من قبل الناخبين قد تعيد النخب الثقافية في أميركا إلى الأرض من خلال فهم عامّة الناس بهواجسهم المتشابكة ما بين الاقتصاد والرزق، والعادات والتقاليد، إضافة إلى التوقّف عن مسرحيّات النفاق بخصوص المساواة وحقوق الإنسان بالنسبة للعالم خارج حدود قلعتهم المسوّرة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

نكسة “الحزب”: سوريا أكبر من الجنوب اللبناني

إذا كانت نتيجة الحرب مع إسرائيل تنطوي على سجال، فإنّ نكسة “الحزب” في سوريا لا تحتمل النقاش. وأخطر ما في الأمر أنّ التغييرات الكبرى ما…

أيّ لبنان بعد سقوط الأسد؟

ما كان لسوريا أن تحرّر نفسها من النظام السابق من دون أن تدفع ثمناً غالياً. وقد دفعته حتى “آخر بارة” كما يقولون. ولكن ماذا بعد…

اللّحظة الإيرانيّة: وحدة الخسارات..

لم يعش قائد فيلق القدس قاسم سليماني ليرى المجد الذي بناه يتهاوى. هو الذي أعلن قبل سنوات سيطرة إيران على أربع عواصم عربية. ها هي…

نتنياهو لجيشه: سوريا الآن أو أبداً

ما الذي تريده تل أبيب من سوريا الجديدة؟ وكيف تنظر إلى مستقبل الدولة التي سُمّيت طوال عقود “قلب العروبة”؟ ما كاد السوريون يحتفلون بلحظة سقوط…