العمامة الوطنيّة والعمامة التّكفيريّة

2024-09-08

العمامة الوطنيّة والعمامة التّكفيريّة

تسود الشارع السنّي حالة من الاستقطاب الديني النزعة على خلفيّة حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، وما يعرف بحرب الإسناد في جنوب لبنان، ويمكن اختصار محطّاتها العديدة بالجدل الذي أشعله كلام عمامتين تحملان خطابين متناقضين: عمامة رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام القاضي الشيخ خلدون عريمط، وعمامة أحمد القطان، غير المسجّل في لوائح العلماء في دار الفتوى- البقاع والمقرّب من الحزب.

يعبّر خطاب العمامة الأولى عن إرث المؤسّسة الدينية وثوابتها التاريخية، ويجسّد التوازن الدقيق بين الأبعاد الثلاثة للهويّة السنّية: الوطني والعربي والإسلامي. فيما يجسّد خطاب العمامة الثانية غير المنتمية إلى الجسم الديني الرسمي علّة وجود هذه الفئة، المتمثّلة في معارضة المؤسّسة الدينية، وتوظيف المخزون الفكري والإرث الديني في المزايدة عليها، والطعن في رجالاتها وتكفيرهم دينياً وسياسياً ووطنياً وأخلاقياً.

تسود الشارع السنّي حالة من الاستقطاب الديني النزعة على خلفيّة حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، وما يعرف بحرب الإسناد في جنوب لبنان

برود لافت

خلال ردّه على الحملة التي شنّها عليه ناشطون إسلاميون ومقرّبون من الجماعة الإسلامية وبعض خطباء الجمعة، على خلفيّة المواقف التي أطلقها في إطلالته الإعلامية عن السلاح غير الشرعي، وعن مشاركة الجماعة الإسلامية في “حرب الإسناد” تحت راية الحزب السياسية، اعتبر الشيخ خلدون عريمط أنّ هذه الحملة تؤكّد أنّ “المشروع الإيراني يمسك تماماً بمفاصل المؤسّسات العامّة والخاصّة، ومنها بعض مساجد المسلمين من أهل السنّة والجماعة في بيروت وبقيّة المناطق”.

أتى التأكيد على كلامه عقب أيام قليلة، في خطبة الجمعة لأحمد القطان في مسجد عمر بن الخطاب في بر الياس بالبقاع، التي شنّ فيها هجوماً غير مسبوق على مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، بأسلوب مزج فيه السخرية بالهجاء الشخصي. بيد أنّ المفارقة تكمن في أنّ حالة الجدل التي أثارتها الإطلالة الإعلامية للشيخ عريمط كان مداها أوسع وأكثر تأثيراً بكثير من الجدل الذي أحدثه هجاء الشيخ أحمد القطان لمفتي الجمهورية. وهو أمر يستحقّ التوقّف عنده مليّاً، ولا سيما عندما نستذكر ردود أفعال كبار رجال الدين والعلماء على الدعوة التي أطلقها الدكتور رضوان السيد وبعض النخب السنّية لضبط الجهاز الديني والحدّ من انجرافهم في الخطاب نحو ما يريده محور الممانعة.

يعبّر خطاب العمامة الأولى عن إرث المؤسّسة الدينية وثوابتها التاريخية، ويجسّد التوازن الدقيق بين الأبعاد الثلاثة للهويّة السنّية: الوطني والعربي والإسلامي

نقارنها بحالة البرود التي استُقبل بها الهجوم على رمز المؤسّسة الدينية ورأس الهرم فيها، والتي لم يخفّف منها كثيراً بيان دار الفتوى في البقاع، الذي أدان “الأسلوب المسفّ والشاذّ الذي يسيء إلى رسالة المسجد والتعاليم الدينية والأخلاقية”، وركّز على عدم انتساب القطان لملاك دار الفتوى. تضاف إليها حالة الصمت عند غالبية الساسة السنّة، ما خلا موقفاً شعبوياً لهذا أو ذاك، ومسارعة الجماعة الإسلامية الى “إعلان البراءة” عبر بيان تلته زيارة تضامنية لدار الإفتاء. حالة الصمت المقدّس هذه أمست نهجاً طاغياً عند النخب السنّية، بما يفسح المجال أمام عوالم الميديا لتكون فاعلاً أساسيّاً.

عَلَمٌ في خدمة الحزب وتكفير خصومه

تشكّل عمامة الشيخ القطان غير الرسمية إحدى أبرز العمائم السنّية “القليلة” التي يستظلّ بها الحزب لإضفاء مسحة سنّية شكليّة في محاولة للتخفيف من الصبغة الشيعية الراديكالية، ولذلك يقدّمه في المجالس خلال كلمات أمينه العامّ، والمناسبات التي يقيمها، ويدعمه عبر مؤسّساته الاجتماعية مثل جمعية “وتعاونوا” و”جهاد البناء”. يرأس القطان جمعية “قولنا والعمل”، التي ينبثق اسمها من شعار “تجمّع العلماء المسلمين”، المعروف بقربه من الحزب.

يحمل شهادة الدكتوراه، وهو أستاذ في “كلّية الدعوة الجامعية للدراسات الإسلامية”، التي أسّسها الراحل الشيخ عبد الناصر الجابري المعروف بقربه من إيران. يوظّف رصيده الديني ومخزونه الفكري في خدمة الحزب، حيث يصعب العثور على خطاب له أو موقف سياسي لا توجد فيه كلمة مقاومة. تصدّر المجالس العاشورائية، وزار طهران في حزيران الماضي لمدّة 5 أيام بدعوة من سفارتها في بيروت، وخطب في أحد اللقاءات هناك من على منبر محاط بصور الإمام الخميني.

تشكّل عمامة الشيخ القطان غير الرسمية إحدى أبرز العمائم السنّية “القليلة” التي يستظلّ بها الحزب لإضفاء مسحة سنّية شكليّة في محاولة للتخفيف من الصبغة الشيعية الراديكالية

يمكن القول من خلال متابعة مواقفه الأخيرة إنّ تهجّم القطان على مفتي الجمهورية يحمل رسالة سياسية من الحزب ترتبط بزيارة المفتين للسعودية، ولا سيما أنّ موقع “العهد” التابع للحزب نشر تصريحاً له بعد 4 أيام فقط من تهجّمه على المفتي دريان يقول فيه إنّ “محور المقاومة أصبح محطّ فخر واعتزاز للأمّة جمعاء”. ومن نافل القول أنّ الحزب دقيق جداً في حساباته ويعلم تماماً أنّه سيتمّ ربط توقيت التصريح بالتهجّم على المفتي.

بيد أنّ القطان لم يكتفِ بالتهجّم على مفتي الجمهورية في خطبة الجمعة، بل قام بتكفير من يعارض محور الممانعة ويصدّق زعماء العرب. لكنّها ليست المرّة الأولى التي يستخدم فيها التكفير “الناعم” في خطابه. في مقال له منشور على موقع كلّية الدعوة الجامعية للدراسات الإسلامية، قام بتكفير الدول التي أبرمت سلاماً مع إسرائيل، والمؤيّدين لسياساتها، بالاستناد إلى حديث نبوي غير متداول كثيراً: “من مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه وهو يعلم بأنّه ظالم فقد خرج من ملّة الإسلام” (رواه الطبراني).

الخطاب الوطنيّ

في المقابل، أعاد الشيخ خلدون عريمط في إطلالته الإعلامية التذكير بأنّ السنّة هم أهل دولة ومؤسّسات، وأنّ دار الفتوى هي مرجعية وطنية تتقدّم الصفوف لاحتضان جميع السنّة عندما تنكفئ القيادات السنّية، ليكون مفتي الجمهورية بمنزلة “حافظ الأمانة”. بيد أنّ تظهيره لموقف وطني يؤكّد فيه أنّ مفهوم سيادة الدولة لا يتجزّأ، ومساواته بين اعتداءات إسرائيل المتكرّرة على الأراضي اللبنانية، وبين انتهاك إيران لسيادة لبنان عبر حرسها الثوري وميليشياته وقنواته الإعلامية التي تمارس التخريب ضدّ الدول العربية من بيروت، هو الذي أثار حفيظة محور الممانعة وحلفائه الجدد.

القطان لم يكتفِ بالتهجّم على مفتي الجمهورية في خطبة الجمعة، بل قام بتكفير من يعارض محور الممانعة ويصدّق زعماء العرب

يقوّض صدور مثل هذا الموقف عن عمامة سنّية المجهود الذي بذله هؤلاء في توظيف دماء الشعب الفلسطيني من أجل غسل سمعة ملالي إيران، وتقسيم العالم بشكل عمودي إلى فسطاطين لا ثالث لهما: إمّا مع محور الممانعة، وإمّا مع إسرائيل. وأعاد تسليط الضوء على الموقف السنّي التاريخي شبه المغيّب في الوقت الحالي برفض ثنائية الدولة والميليشيا، واعتبار أيّ سلاح خارج الدولة سلاحاً غير شرعي، حتى لو كان سنّياً، علاوة على وضع حرب الإسناد ضمن إطار الصراع الجيوسياسي بين أميركا وإيران. مع ذلك، أكّد الشيخ عريمط أنّ تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي “من البحر إلى النهر” هو واجب شرعي، لكنّه شدّد على ضرورة التنسيق والتكامل مع الدول العربية لإنتاج سياسة موحّدة.

إقرأ أيضاً: أربعينيّة الحسين: السُّنّة أمام استراتيجية “ممانعة” جديدة

سُنّة لبنان بين نوعين من العمامة الدينية. نوع يحاكي المؤسّسات والنظام والاستقرار، ونوع آخر يحاكي أجندات خارجية هدفها هدم المجتمعات العربية. وعلى قاعدة “لا يصحّ إلا الصحيح” لا تغيب عمائم المؤسّسات حتى بالموت، وفي عمامة المفتي الشهيد حسن خالد أكبر دليل، فيما العمائم الأخرى يرتفع صوتها بعض الأيام لكنّها تغيب عن كتب التاريخ.

مواضيع ذات صلة

الرّئاسة من خرم الحرب: صفر نتيجة

لا تزال لغة الميدان تطغى على أيّ مسعى خارجي أو داخلي للجم كرة نار الحرب الكبرى، وأجّجتها أكثر تصفية الحسابات الإيرانية-الإسرائيلية التي باتت جزءاً أساسيّاً…

1701+… ولجنة رباعيّة لمراقبة التّطبيق

حتى الآن لا صوت يعلو فوق صوت المدفع، أو بالأحرى صوت طائرات F35 والصواريخ البالستية، وبقيّة الأسلحة التدميرية التي لا توفّرها إسرائيل في عدوانها الوحشي…

تباين بين برّي والحزب على “اليوم التّالي”؟

لم تَعُد الحرب البريّة مجرّد توقّع. وَقَع المحظور واكتملت عناصر “الانفجار الكبير” بإعلان العدوّ الإسرائيلي تنفيذه “عملية بريّة محدودة وموضعية ومحدّدة الهدف” ضمن مسار عسكري…

باريس “تغربل” الترشيحات الرئاسية

لم يُبعث الكلام عن الاستحقاق الرئاسي، من تحت ركام الحرب التدميرية التي يتعرّض لها لبنان، من العدم، بعدما رفض رئيس مجلس النواب نبيه برّي لـ”الشرق…