تتعاطى السلطة اللبنانية مع استحقاقاتها الخارجية A la libanaise. وتظنّ أنّ العالم برمّته مُسَخّر من أجل مصالحها. فلا تعير أيّ استحقاقٍ الاهتمام المطلوب. من بين تلك الاستحقاقات موعد انقضاء 5 سنوات على التعثّر بعد قرار الامتناع عن الدفع الذي اتّخذته حكومة الرئيس حسان دياب في شهر آذار 2020. يظنّ البعض أنّ الموعد المذكور ما زال بعيداً، وأنّ السلطة ما زالت تملك الوقت للتحرّك. إلّا أنّ هذا الموعد أقرب إلينا من حبل الوريد.. فما هي خيارات السلطة اللبنانية من أجل وضع لبنان على سكّة الحلّ وليس على سكّة الخسارة في المحافل القضائية الدولية؟ وهل يكون “نادي باريس” هو الحلّ؟
بدأت المعلومات تتواتر عن أنّ حَمَلة السندات السيادية اللبنانية بالدولار الأميركي (اليوروبوندز)، من المحلّيين والأجانب، يُعدّون العدّة من أجل رفع دعاوى ضدّ الدولة اللبنانية، وذلك قبل سقوط حقّهم بالمطالبة بالفوائد المترتّبة على تلك السندات، والمنصوص عليها ضمن الاتفاق الموقّع بين الدائن والمدين (الدولة مصدّرة السندات والجهات الشارية).
تتعاطى السلطة اللبنانية مع استحقاقاتها الخارجية A la libanaise. وتظنّ أنّ العالم برمّته مُسَخّر من أجل مصالحها
لكن في المقابل ثمّة من يطرح اليوم فكرة “من خارج الصندوق” تفيد بأنّ لبنان قد يكون قادراً على تفادي هذا السيناريو من خلال إقدام الدولة على “التنازل” عن حقّها في هضم الفوائد، وإعلان “تمديد مهلة الاعتراض” المقدّرة بـ5 سنوات، إلى 10 سنوات أو ربّما أقلّ، وذلك من خلال تعديل الشروط الواردة في الاتفاق بشكل قانوني، وهو ما يفسح لها المجال للاستفادة من الوقت للتحرّك.
تظنّ السلطة أنّ هذا السيناريو قد يكون كفيلاً بالتهدئة من روع حَمَلَة سندات “اليوروبوندز”، وبالتالي دفعهم نحو التريّث قبل السير قدماً بملفّ الدعاوى. تراهن على أنّ حَمَلة سندات “اليوروبوندز” المحلّيين، وجلّهم من المصارف اللبنانية بالمناسبة، قد يرتضون بهذه التوليفة باعتبار أنّ المصارف لن تجرؤ على إقامة دعاوى قضائية ضدّ الدولة، أو ربّما تذهب “بالحياء” مع السلطة، علّ قرار المصارف يؤثّر على قرار حَمَلَة “سندات اليوروبوندز” الخارجيين الأجانب. لكن بالطبع، لا تُدار الملفّات الماليّة والنقدية بهذه الطريقة.
بدأت المعلومات تتواتر عن أنّ حَمَلة السندات السيادية اللبنانية بالدولار الأميركي، يُعدّون العدّة من أجل رفع دعاوى ضدّ الدولة اللبنانية
ما علاقة أموال المودعين؟
تعتبر المصارف المحلّية أنّ تلك الفوائد هي جزء لا يتجزّأ من أموال المودعين المطالبة هي بتسديدها، وبالتالي غضّ الطرف عن تلك الفوائد أو عن الدعاوى هو بدوره تواطؤ إضافيّ على المودعين لا يمكن السير به. وهذا يعني أنّ مسألة لجوء المصارف المحلّية إلى القضاء من أجل ضمان حقّها بفوائد السندات هي أمر حتميّ.
كما أنّ الرهان على تمديد المهلة من أجل دفع الجهات الدائنة (الداخلية والخارجية) إلى عدم اللجوء إلى القضاء هو بدوره رهان قد يكون خائباً. إذ لا نصّ قانونيّاً يمنع الجهات الدائنة من الادّعاء على الدولة منذ اليوم الأوّل لإعلان التعثّر… وهذا بدوره يعني أنّ الجهات الدائنة الخارجية قد لا تكترث لمسألة تمديد المهلة من 5 إلى 10 سنوات، حتى لو وافقت المصارف المحلية على ذلك، خصوصاً أنّ المعلومات المستقاة من مصادر مصرفية محلّية تفيد بأنّ حَمَلة سندات “اليوروبوندز” الخارجيين قد باشروا بالفعل التحضير للادّعاء ضدّ الدولة اللبنانية. وربّما يكون الموعد قبل نهاية العام الحالي 2024 بحسبما تؤكّد المصادر. وهذا بدوره إجراء أكثر من منطقي. إذ لن ينتظر هؤلاء أهواء أهل السلطة وتطلّعاتهم في محاولة “حلب الوقت” إلى ما لا نهاية.
حدّدت الدولة اللبنانية لحمَلتها فترة 5 سنوات من أجل المطالبة بالفوائد، و10 سنوات للمطالبة بأصل الدين منذ تاريخ التوقّف عن الدفع
دائنون مجهولون؟
منذ بداية الأزمة في 17 تشرين الأوّل 2019 إلى اليوم، لم تقدم السلطة اللبنانية على اتّخاذ أيّ إجراء تطمينيّ تجاه الجهات الدائنة المعلومة/المجهولة إلى اليوم. فبينما يقال إنّ حَمَلَة سندات “اليوروبوندز” الأجانب هم الأكثرية ويحملون ما يوازي 65% من 31 مليار دولار سندات، لا تعرف الدولة اللبنانية هويّة هؤلاء. أمّا التقديرات فتشير إلى أنّ حجم الفوائد المترتّبة على الدولة يراوح بين 10 و12 مليار دولار.
سبق أن تعاقدت وزارة المالية مع شركة أجنبية خاصة من أجل إحصاء حَمَلَة السندات خارج لبنان ومعرفة هويّاتهم. إلّا أنّ هذا القرار بقي مجهول المصير ولم يُعرف إن كان قد نُفّذ بالفعل أو لا. ومنذ بداية الأزمة تتواتر معلومات عن حَمَلَة تلك السندات، ويرجّح أن تكون من بينهم شركات استثمارية أجنبية مثل “بلاك روك” و”أشمور” الأميركيّتين، و”أموندي” الفرنسية وغيرها.
حَمَلَة سندات “اليوروبوندز” الأجانب هم الأكثرية ويحملون ما يوازي 65% من 31 مليار دولار سندات
هل تعيد الدّولة هيكلة السّندات؟
وفق شروط إصدار سندات “اليوروبوندز”، حدّدت الدولة اللبنانية لحمَلتها فترة 5 سنوات من أجل المطالبة بالفوائد، و10 سنوات للمطالبة بأصل الدين منذ تاريخ التوقّف عن الدفع. وبعد هذا التاريخ سوف يبدأ حَمَلَة السندات بفقدان حقّهم بالفائدة، إلّا في حال قامت الدولة بهيكلة سندات اليوروبوندز قبل هذا التاريخ، وهو أمر مستبعد جداً للأسباب التالية:
1- بسبب الوضع الأمني السائد في البلاد الذي يحتلّ الأولوية في لائحة الاهتمامات.
2- بسبب الوضع السياسي في البلاد، حيث الرئاسة الأولى شاغرة والحكومة مستقيلة.
على الرغم من هذين العائقين، يبقى التوقيت الحالي هو التوقيت الأفضل من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الدائنين، وذلك لاستباق الدعاوى وتحاشي ما سبق أن تحدّث عنه الكثير من المحلّلين والصحافيين الاقتصاديين من احتمالات الحجز على ممتلكات الدولة (ليست في العالم سابقة حجز ممتلكات دولة من أجل دين سياديّ). وبالتالي تحاشي الدخول في سجالات من صنف “هذه أموال مصرف لبنان وليست أموال الدولة”، خصوصاً أنّ ما يملكه مصرف لبنان أهمّ بكثير ممّا تملكه الدولة (ذهب بقيمة تزيد على 23 مليار دولار أكثر من ثلثه في خزائن “فورتنوتس” الأميركية، وشركة طيران الشرق الأوسط التي تقدّر قيمتها الإجمالية بنحو 1 مليار دولار اليوم، إضافة إلى عقارات بالمئات ولوحات وأعمال فنّية…).
يبقى التوقيت الحالي هو التوقيت الأفضل من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الدائنين، وذلك لاستباق الدعاوى
اليوم اليوم وليس غداً
يفيد كلّ هذا بأنّ إطلاق عجلة التفاوض اليوم هو التوقيت المثاليّ والحلّ الأفضل للبنان، خصوصاً أنّ التفاوض يمكن أن يخصّ سندات “اليوروبوندز” ذات الاستحقاقات القريبة وليس كلّها (على لبنان استحقاقات تمتدّ إلى عام 2037). وبالتالي لن تكون كبيرةً المبالغ التي سيتمّ التفاوض حولها. كما أنّ التفاوض سيكون ذا وقع اقتصادي إيجابي وشديد الأهمّية للبنان.
من المتعارف عليه أنّ التفاوض مع الدائنين في مجال السندات يتمحور بالعادة حول 3 نقاط:
1- أصل الدين.
2- قيمة الفوائد.
3- الاستحقاقات والآجال.
إقرأ أيضاً: لبنان عائد إلى “اللائحة الرّماديّة” لغسل الأموال؟
في ظلّ الظروف السائدة اليوم في لبنان، حيث الأزمة الاقتصادية ما زالت مستشرية، والحرب الشاملة تطرق الأبواب، يُعدّ التفاوض مع الدائنين مثاليّاً بتوقيته من أجل فرض الشروط الأفضل للدولة اللبنانية. خصوصاً أنّ السجلّ اللبناني خالٍ من أيّ تعثّرات سابقة، وبالتالي فإنّ التفاوض اليوم مع الدائنين، في حال أدخل صندوق النقد لبنان إلى “نادي باريس”*، ربّما سيكون قادراً على تخفيض قيمة الدين إلى النصف (إلى 15 مليار دولار) وكذلك الفوائد (إلى 5 مليارات دولار). كما أنّ هذا السقف المنخفض يمكن الاستفادة منه، وتسجيله كـ”سابقة” للانطلاق منها لتسوية بقيّة استحقاقات سندات “اليوروبوندز” البعيدة الأجل. عندها تكون الدولة اللبنانية قد تخلّصت من نصف دينها بالعلاقات العامة وليس بواسطة أملاكها ومقدّراتها، أي أملاك ومقدّرات الشعب اللبناني… فهل هناك من يتّعظ؟
لمتابعة الكاتب على X:
*”نادي باريس”: هو مجموعة غير رسمية مكوّنة من مسؤولين ماليّين مموّليين من 19 دولة من بين أكبر الاقتصادات في العالم. (إسرائيل العضو الـ20 دخلت النادي قبل 10 سنوات). هو مجموعة تقدّم خدمات ماليّة مثل إعادة جدولة الديون للدول المديونة بدلاً من إعلان إفلاسها. أو تسعى إلى تخفيف عبء الديون بتخفيض الفائدة عليها، أو إلغاء الديون بالكامل. وغالباً ما تتمّ التوصية بتلك الدول أو تسجيلها في النادي المذكور بواسطة صندوق النقد الدولي. ويكون منحازاً لها باعتبارها دولاً أعضاء لديه. ويقوم بذلك غالباً بعد فشل كلّ الحلول البديلة لتسديد ديون.