في عقل إيران: منافع تجنّب الرّدّ أولى من تنفيذه

مدة القراءة 4 د

ما زالت راية الثأر ترفرف فوق أحد مساجد قم الإيرانية، في انتظار الردّ على اغتيال إسرائيل زعيم حركة حماس إسماعيل هنية في عقر دار الجمهورية الإسلامية. وتمرّ الساعات والأيام، ولا يسمع ولا يسجّل سوى ضحايا جدد جلّهم فلسطينيون سقطوا بسلاح إسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية. وفي غضون ذلك يرتفع منسوب التوتّر العالمي، الظاهر على الأقّل، من مغبّة ما يمكن أن تشعله ضربة إيرانية، ليس في إسرائيل وحسب، وإنّما على مستوى الإقليم والعالم بأسره.

 

تنام إيران ملء جفونها مستقبلةً سفراء وساطات ودعوات التمني عليها بعدم الردّ جهاراً أو خيفة، وتبقي على خطابها الرسمي العلني أنّ الردّ آتٍ لا محالة، لكن دون أن ترافق ذلك أيّ تفسيرات أو تلميحات إلى نوعية وماهية وكيفية الردّ المتوقّع الذي جعل العالم واقفاً متأهّباً قلقاً كأنّ الريح من تحته  تحرّكه شمالاً وجنوباً، وربّما في كلّ الاتّجاهات.

هرولت أميركا وسيّرت حاملاتها البحرية إلى المنطقة وأشعلت كلّ الأضواء الحمر، حتى إنّها تحدّثت عن موعد محدّد لبدء الهجوم الإيراني، ورافقتها في ذلك معظم الدول الغربية الكبرى التي قامت بإجراءات وصلت حدّ إغلاق سفارات وترحيل رعايا خارج المنطقة. مرّ موعد الردّ المعلن وإيران تنام وتصحو على أمر مقاربة دعوات عدم الردّ بضرب إسرائيل.

تعرف إيران موقعها في المنطقة جيّداً، ومعه تدرك أبعاد تأثيرها المحسوب بالربح والخسارة كذلك، وهي التي عبرت أكثر من أربعة عقود من عمر المنطقة الصاخب واللاهب بسلام، بل باتت اليوم أكثر قوّة وتأثيراً وأوسع علاقات وانتشاراً على الرغم من جميع إجراءات العقوبات والمقاطعة التي فرضها عليها الغرب والإقليم على مدار العقود الماضية.

هرولت أميركا وسيّرت حاملاتها البحرية إلى المنطقة وأشعلت كلّ الأضواء الحمر، حتى إنّها تحدّثت عن موعد محدّد لبدء الهجوم الإيراني

هل تقايض إيران الردّ؟

تظهر الأمور على السطح أنّ إيران ستذهب إلى ضربة قويّة غير مسبوقة ستكون أقوى من تلك الأخيرة التي قامت بها إثر قصف إسرائيل سفارتها في دمشق قبل أشهر ماضية. صحيح أنّه لم يمرّ وقت طويل على اغتيال هنية في قلب طهران، وبالتالي لم يفُت أوان الردّ، لكنّ سيرة إيران الإسلامية السياسية وتطوّر سلوكها وعلاقاتها مع المنطقة، لا سيما إسرائيل، يشير إلى احتمالات مقايضة الردّ هذه المرّة بمنافع ومكاسب جديدة.

لا يشكّل ملفّ إيران النووي عبئاً عليها بالقدر الذي يبدو عليه، إذ تمكّنت من تحقيق استفادة منه أكبر بكثير ممّا خسرته، بما في ذلك اغتيال علماء ومسؤولين عن الملفّ. واستطاعت كذلك تحويل وجودها في سوريا والعراق واليمن ولبنان وفلسطين إلى مكاسب في علاقاتها مع الغرب ومع العرب على حدّ سواء. وقد حوّلت حلفها مع الحزب وحماس والجهاد إلى ورقة ضغط كبيرة في علاقاتها مع أميركا والغرب، واستخدمتها مراراً في تحقيق مكاسب على الأرض في كلّ من العراق وسوريا واليمن وعلى مستوى مفاوضاتها مع الغرب في ملفّات اقتصادية وسياسية.

إيران

قرار بالدم

من الواضح أنّ حلفاء إيران في المنطقة، اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، يعوّلون ويعتمدون على دعم إيران ووقوفها إلى جانبهم أكثر بكثير ممّا تعتمد إيران عليهم، الأمر الذي يعطي للجانب الإيراني سلطة وقوّة القرار في الردّ والتصعيد. في غضون ذلك تمكّنت إيران من تحسين علاقاتها مع دول الخليج، لا سيما السعودية والإمارات. وفي مقابل ذلك اختفى شعار تدمير إسرائيل من خطاب إيران السياسي، وحلّت محلّه دعوات محاسبتها ومعاقبتها.

تستطيع إيران كذلك تحويل عدم الردّ على إسرائيل وتعويضه باتّخاذ موقف متقدّم من المحادثات أو المحاولات الجارية للتوصّل إلى هدنة في قطاع غزة مع الفلسطينيين وفي جنوب لبنان مع الحزب. تمسك إيران بخيوط عديدة في هذه الحرب، ويبدو أنّ إسرائيل قدّمت لها حبلاً متيناً باغتيال هنية، وكذلك القائد في الحزب فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية من بيروت.

بوسع إيران استغلال كلّ الوقت والفرص التي وفّرها الوضع الحالي بمجرّد فقط مواصلة تأكيدها أنّها ستردّ على إسرائيل

بوسع إيران استغلال كلّ الوقت والفرص التي وفّرها الوضع الحالي بمجرّد فقط مواصلة تأكيدها أنّها ستردّ على إسرائيل. ثمّة الكثير ممّا يمكن بحثه وتمحيصه في طبيعة الخطوة التي ستقدم عليها إيران، بيد أنّ الأمر الوحيد الذي يمكن التثبّت منه والقطع به حتى تنفيذ تلك الخطوة والطريقة التي ستكون بها، هو أنّ إسرائيل تواصل قتل الفلسطينيين، سواء كانوا قادة على غرار هنية أو مواطنين عاديّين يذهبون إلى حتفهم يومياً.

إيران هي التي ستقرّر، لكنّ القرار سيكون مجبولاً بالدم ومعاناة الغير.

 

*كاتب فلسطيني في الضفة

مواضيع ذات صلة

انتخابات أميركا: بين السّيّئ.. والأسوأ

واشنطن   أصعب، وأسوأ، وأسخن انتخابات رئاسية في العصر الحديث هي التي سوف تحدّد من هو الرئيس رقم 47 للولايات المتحدة الأميركية. في الوقت ذاته…

قراءة سياسيّة في أزمة النّزوح… التي ستطول

حرب عامي 2023 و2024 لا تشبه حرب عام 2006 في العديد من الأمور، ومنها الحكومة القائمة وقتها، والحماسة العربية والدولية للبنان، والحجم الأقلّ للحرب وخسائرها….

رعب أوروبا من تقاطع ترامب وبوتين فوق سمائها

قبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع، لا تخفي عواصم في أوروبا قلقها من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولا يقوم ذلك القلق على شكّ…

“الميدان” الذي ننتظر “كلمته” يتمدّد من الخيام إلى إيران

“الكلمة للميدان” هي اللازمة التي تردّدها قيادة الحزب في تعليقها على جهود وقف النار في لبنان وشروط إسرائيل. بين ما يرمي إليه استخدام هذه العبارة…