“وَمَا الحَـرْبُ إِلّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ
مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ
فَتَعْـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ”
(زهير بن أبي سلمى)
وردت عبارة “الإنسان ذئب للإنسان” في نصّ أدبي للحكيم الروماني الرواقيّ، مستشار الإمبراطور تيبيريوس، لوشيوس سينيكا الذي توفّي في عام 65م. ثمّ استعملها الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبس (1588-1679م) كعنصر تأسيسي في نظريّته السياسية في كتاب الطاغوت الشهير. لا شكّ أنّ التعبير صادم بكونه شديد الواقعية، ويخالف كلّ الروايات الرومنسية عن كون الإنسان الأوّل وديع بطبعه، لكنّ المجتمع يجعله عدائياً بسبب الحاجات والتنافس. فرضية الإنسان الذئبيّ الطابع أثبتها العلم حتى على المستوى البيولوجي، وقد ورثها البشر من عالم السحليّات البدائية كوسيلة للبقاء، لكن في تيقّظ دائم من الذئب الآخر ومن الطبيعة والحيوانات التي يتشارك معها في طبعه العنيف.
هكذا يولد عالم الأخلاق
أمران أساسيان دفعا البشر إلى عالم الأخلاق والعلاقات الودّية والتعاون. الأوّل هو توازن الرعب مع الذئب الآخر، فمهما بلغ أيّ فرد من منعة وجبروت، فهو مجبر على النوم على الأقلّ وحينئذ يكون فريسة سهلة لكلّ أنواع الضواري، ومن ضمنها البشر. كما أنّ الغفلة والتعب والمرض كلّها تجعل من الذئاب، ولو مؤقّتاً، في حال ضعف مهما بلغت قوّة الواحد منها. الأمر الثاني هو اكتشاف البشر فوائد العيش معاً، منذ أيام اكتشاف الزراعة وفوائدها، وبالتالي فعّالية التعاون ضمن قواعد عرفيّة للمزيد من الراحة والأمان، ومضاعفة القدرة على الإنجاز.
لكنّ هوبس اعتبر أنّ ضابط الإيقاع للعلاقة السلميّة بين البشر هو وحش يمثّل السلطة القادرة على الردع، باعتراف جموع الذئاب للتمكّن من العيش معاً. يعتبر هوبس أنّ الأخلاق هي اختراع شاذّ في الطبيعة، لأنّ الطبيعة لا أخلاق لها، وكذلك هي حال الإنسان في الطبيعة، ولذلك هذه الطبيعة العنيفة تبقى كامنة في حال وجود السلطة التي تحافظ على التوازن في المجتمع، لكنّ الطبيعة غالبة في حال زوال الأمان.
على إيران وحزبها الردّ باغتيال قادة عسكريين أو سياسيين في إسرائيل للردّ على الاغتيالات
هناك رواية تحوّلت إلى فيلم سينمائي تتحدّث عن مسؤولين إداريين في المملكة المتحدة سرّبوا سرّ القنبلة النووية إلى الاتحاد السوفيتي في أواخر أربعينيات القرن العشرين لقناعتهم بأنّها الوسيلة الوحيدة لردع الغرب عن الدخول في حرب عالمية ثالثة لضرب الشيوعية.
هذا يعني أنّ درس توماس هوبس عن طبيعة البشر دفع بعض صنّاع السلام في بريطانيا إلى تسهيل اختراع طاغوت عنوانه “توازن الرعب النووي” لتحقيق السلام، مع القناعة أنّ هذه المعادلة هشّة لدرجة يمكن أن تُكسر بشكل مأساوي، إمّا في ساعة غفلة، أو في وقت يظنّ فيه أحد الأطراف أنّه متفوّق بشكل حاسم، أو قادر على تحمّل الخسائر أكثر من الآخرين، على الرغم من الدمار، ليبقى هو ناجياً وحيداً، بعد انقشاع الغبار النووي، أو بعد انحسار موجة عدوى فتّاكة بفيروس معدّل جينياً ليفني الأعداء… وهذا الأمر نعيش في ظلّه بشكل يومي وليس من عالم الخيال، ولا يهدف الحديث عنه لإقناع القارئ بعدميّة الوجود، بل لإنعاش الذاكرة والوعي بأنّ شيئاً ما يمكن أن يُفعل لمنع البشر من العودة إلى طبيعتهم، وأنّ اللعب على حافة الجحيم لا يمكن الركون إليه لحفظ الأمن والسلامة.
عندما باعنا الحزب توازن الرعب
لم أدخل في هذه المقدّمة الطويلة والمضجرة إلا للعودة إلى عالمنا الصغير الذي نعيشه في لبنان منذ عدّة عقود، وهو توازن الرعب الذي باعنا إيّاه الحزب، وأخذ بعقل الكثيرين، سواء كانوا ضمن ما يسمّونه جمهور الحزب أو ضمن بعض الشعوب اللبنانية المتناحرة بحكم ذئبيّتها الجماعية حتى ممّن يمقتون العقيدة السياسية والإيمانية لهذا الحزب. توازن الرعب هو أوّلاً داخلي حيث يواجه الحزب منتقديه ومعارضيه وأعداءه باحتمال القتل أو التفجير بعبوة على مفترق طرق أو بالحرمان من جنّة الحكم ومفاعيل الفساد، أو بالتشهير والاتّهام بخدمة مصالح إسرائيل أو بالعمالة للصهيونية والشيطان الأكبر.
ما هو مؤكّد وحتمي أنّ توازن الرعب، مهما طال زمنه وفعّاليّته، فهو كالسير على حافة الجحيم في مسلك وعر
توازن الرعب المحلّي الثاني هو الحرب الأهلية، وهو توازن رعب لأنّه لا الحزب ولا معارضيه على استعداد لها، لأنّها خسارة عامّة، ربحها غير مضمون على المدى الطويل، وإن كان الحزب يشيع بأنّه قادر على حسمها في وقت قصير من خلال مئة ألف مقاتل، حسب الحسابات المعلنة لرئيس الحزب.
لكنّ الأهمّ هو الحديث عن توازن الرعب مع إسرائيل. وهو يستند أساساً إلى فرضية واحدة، وهي أنّ الحزب وجمهوره قادرون على تحمّل تبعات الحرب إن حصلت، من قتلى ودمار وانقطاع وسائل الرفاهية والرزق، كالكهرباء مثلاً. كما أنّ عقيدة الاستشهاد يمكنها أن تصبّر ذوي الضحايا على فقدان أحبّائهم، طبعاً مع بعض التعويضات، وهي التي تشحّ كمّاً ونوعاً يوماً بعد يوم، لندرة الموارد وارتفاع الحاجات. ويستند هذا التوازن أساساً إلى أنّ مئات آلاف المقاتلين قد حشدتهم أسطورة الغلبة مهما طال الزمن، كما هو الوعد بآخرة زاهرة وعامرة. وإن كانت إسرائيل تستند إلى الحلف الغربي وترسانتها النووية للتوازن مع الحشود المستعدّة للموت، فإنّ إيران، بعد تجربة موجعة في حربها الطويلة مع عراق صدّام حسين، تعلّمت الدرس بعدما “تجرّعت سمّ” إنهاء الحرب تحت وطأة الخسائر، وجعلت من توازن رعبها مستنداً إلى قدرتها على استخدام أجساد المتبرّعين، من غير الفرس، لخدمة أسطورتها.
الرد على الاغتيالات بالمثل يصبح ضئيل الاحتمال مهما بلغ حجم الرد، لأنّه، إن نجح، فسيطال حتماً مواقع مدنية في الأراضي المحتلّة
توازن الرّعب المكسور..
ما يغفله ويتجاهله توازن الرعب هذا هو البشر غير المتحزّبين، الذين لم تتمّ استشارتهم في ما إذا كانوا يرغبون في التضحية لأجل أيّ طرف من أطراف التوازن.
لكن حُكي عن رسائل وجّهتها العدوّ الخبيثة إسرائيل إلى الحزب وإيران، عبر وسائط دبلوماسية، تطالب بالحفاظ على قواعد الاشتباك وعدم استهداف المدنيين. يعني أنّ على إيران وحزبها الردّ باغتيال قادة عسكريين أو سياسيين في إسرائيل للردّ على الاغتيالات. لكن، في هذا المجال، توازن الرعب مكسور بشكل فاضح بحكم القدرات التقنية والعسكرية التي تملكها دولة العدوّ في توجيه ضربات دقيقة، ولا علم لنا بما إذا كان معسكر الممانعة يملكها بحكم أنّه لم يستعملها حتى الآن، على الرغم من الشدائد. هذا يعني أنّ الردّ على الاغتيالات بالمثل يصبح ضئيل الاحتمال مهما بلغ حجم الردّ، لأنّه، إن نجح، فسيطال حتماً مواقع مدنية في الأراضي المحتلّة، وبالتالي سيفتح باب جهنّم الردّ على الردّ، ويتحقّق حلم نتنياهو الذي سعى إليه منذ تسعة أشهر بإدخال الولايات المتحدة إلى أرض المعركة.
إقرأ أيضاً: اللّبنانيّ الحائر بين ترقّب المصيبة والوقوع فيها
بالمحصّلة، ما هو مؤكّد وحتمي أنّ توازن الرعب، مهما طال زمنه وفعّاليّته، فهو كالسير على حافة الجحيم في مسلك وعر، لا يمكن حسبان متى ينزلق السائرون عليه إلى قعر الجحيم.
لمتابعة الكاتب على X: