بريطانيا الهادئة إلى اليسار.. وفرنسا القَلِقة إلى اليمين

مدة القراءة 6 د

تغادر بريطانيا 14 عاماً من حكم حزب المحافظين. ويبدو أنّ فرنسا تغادر الماكرونية نحو المجهول… بين باريس ولندن ساعتان بالقطار أو 40 دقيقة بالطائرة. ولمسار الانتخابات في البلدين نقطة بداية مشتركة، فيما لنهاية المسارين مآلات متباعدة. تعيد بريطانيا حزب العمّال اليساريّ إلى السلطة، وهذا روتين تقليدي للتناوب على السلطة في المملكة المتحدة، وأمّا فرنسا فقد تأتي باليمين للمرّة الأولى إلى السلطة. وها هي تصارع نفسها لتلاقي مصيراً يصعب التنبّؤ بما بعده.

 

في نقطة البداية في بريطانيا فاجأ زعيم حزب المحافظين اليميني، رئيس الوزراء ريشي سوناك، البلاد وحزبه وحكومته في 22 أيار بإعلانه إنهاء خدمات مجلس العموم (البرلمان) والدعوة إلى انتخابات عامة مبكّرة جرت أمس.

لم يستطع كبار المحلّلين السياسيين ولا حتى كبار قادة الحزب أن يعرفوا ماذا دار في خلد سوناك ومستشاريه المقرّبين حتى اجترحوا حلّاً دراماتيكياً صاعقاً. بعضهم تبرّع من دون قناعة بإعطاء تفسير واحد: البلاد ذاهبة إلى الأسوأ. والأفضل للحزب الحاكم أن يعوّل على ما تحقّق وأُنجز وسُجّل من مؤشرات انتعاش اقتصادي إيجابية من أجل العمل ولو بيأس على انتشال الحزب من ورطته. بمعنى آخر فإنّ السقوط محتمل في انتخابات مسبقة مبكّرة، لكنّه سيكون حتمياً في موعد لاحق. الأمر رهان والمناورة مقامرة.

عزّزت الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية، الأحد الماضي، مكانة تحالف اليمين المتطرّف بتصدّره مرّة أخرى المشهد بنسبة تقترب من 30 في المئة.

ماكرون وسوناك… طريق واحدة

في نقطة البداية في فرنسا أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 9 حزيران الماضي حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكّرة تجري في دورتين. الأولى جرت في 30 حزيران الماضي والثانية تجري الأحد المقبل في 7 تموز الجاري. اتّخذ ماكرون قراره في يوم إعلان نتائج الانتخابات الأوروبية، فظهر أنّ تحالف حزبه، وهو حزب السلطة، تدحرج محقّقاً نسبة 14.6 في المئة من المقاعد. فيما تصدّر تحالف حزب “التجمّع الوطني” اليميني المتطرّف الصدارة محقّقاً نسبة تاريخية وصلت إلى 31.3 في المئة. وقد اتّخذ ماكرون قراره “الانتحاريّ” بالتشاور مع حلقة ضيّقة لم يكن منها كبار القادة في حزبه وأحزاب الأغلبية. والفضيحة أنّه لم يُعلم رئيس وزرائه المخلص، غبريال أتال، إلا قبل الإعلان الرسمي بقليل.

وكما في فلسفة سوناك البريطاني، فإنّ ماكرون الفرنسي، وفق تفسيرات مجتهدة مرتبكة، ارتأى إحداث صدمة تضع الفرنسيين أمام مسؤوليّاتهم لاختيار من يحكمهم، أو هكذا قال. لم يكن الرجل مضطرّاً إلى هذا “الإثم”. فهو رئيس البلاد ولديه حكومة تعمل وتحظى بأغلبية نسبية لكن كافية. وصلاحية البرلمان تنتهي بعد 3 سنوات في عام 2027.

ستغلّ ماكرون لحظة تاريخية نادرة تداعت فيها جدران الأحزاب التاريخية الكبرى، سواء في يمينها التقليدي الديغوليّ أو في يسارها التاريخي الاشتراكي

رهان ماكرون… الخاسر

في رواية أولى أنّ الرجل، في نرجسيّته، قد استشاط غضباً من نتائج الانتخابات الأوروبية واعتبرها جاحدة بحقّه وحقّ حزبه، وهما اللذان يصارعان لانتشال البلد من أزماته، حسب ما نُقل عنه.

في رواية ثانية أنّه أراد تكرار ما خبره وخبرته فرنسا قبل ذلك من ردّ فعل شعبي نسي انقساماته لإقامة “سدّ جمهوري” ضدّ “الفاشية العائدة” لمنع اليمين المتطرّف من العبور إلى السلطة.

فعل الفرنسيون ذلك عام 2002، فوقفوا سدّاً منيعاً لصدّ محاولة الزعيم التاريخي لليمين المتطرّف، جان ماري لوبن، دخول الإليزيه في انتخابات ذلك العام، ففاز جاك شيراك. وفعلوا ذلك، يساراً ويميناً ووسطاً، مرّتين أمام ابنة لوبن، مارين، في عامَي 2017 و2022 لمصلحة ماكرون نفسه. غير أنّ هذه المرّة في الأمر رهان وفي المغامرة مقامرة.

يُحسب لسوناك في بريطانيا أنّه راهن على الخيار الأخير، والأرجح أنّه الأصحّ، في محاولة لإنقاذ حزبه من سقوط، أو عوّل على ألّا يكون السقوط مدوّياً، ولم ينجح. ولئن فوجئ قادة حزب المحافظين بقرار زعيمهم، غير أنّ منهم من استحسن القرار وآمن بقدره، فيما آخرون لم يعارضوه لعدم امتلاكهم خيارات بديلة. لكنّ رئيس الوزراء البريطاني، وإن يغامر في حساباته، فهو لا يقامر في مصير بريطانيا. ذلك أنّ الخسارة تعني انتقال الحكم، كما هو معروف في تاريخ البلاد، إلى حزب خصم عريق، وانتقال حزبه آليّاً إلى مقاعد المعارضة.

عودة اليمين وخطره في فرنسا

بالمقابل عزّزت الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية، الأحد الماضي، مكانة تحالف اليمين المتطرّف بتصدّره مرّة أخرى المشهد بنسبة تقترب من 30 في المئة. يليه تحالف اليسار بنسبة تقترب من 28 في المئة. وحلّ التحالف الماكروني ثالثاً بنسبة تتجاوز بقليل 20 في المئة. فيما ترتجف فرنسا ممّا ستحمله الدورة الثانية، الأحد المقبل، من مصير.

الذي يحدث في فرنسا فهو زلزال يطيح بتقاليد جمهورية شارل ديغول الخامسة وبتوازنات الدولة واستقرار البلد

المفارقة أنّ عبور اليمين المتطرّف إلى السلطة يتناسل من ظروف وعوامل عبور ماكرون نفسه إلى سدّة الرئاسة في فرنسا. استغلّ ماكرون لحظة تاريخية نادرة تداعت فيها جدران الأحزاب التاريخية الكبرى، سواء في يمينها التقليدي الديغوليّ أو في يسارها التاريخي الاشتراكي. وحين هرع الفرنسيون إلى دعم الشابّ الصاعد فقد رأوا فيه بديلا فذّاً يمكن الاستناد إليه بعدما غادروا المساحات الانتخابية في اليمين واليسار. والظاهر أنّ حكاية صعود مارين لوبن وحزبها تكرّر تعويذة ماكرون نفسه. ذلك أنّ ضمور ذلك اليمين وذلك اليسار وانكشاف قدرات ماكرون والماكرونية جعلا من اليمين المتطرّف ملاذاً منطقياً معقولاً وربّما مطلوباً.

إقرأ أيضاً: الانتخابات الفرنسيّة: إعادة 87% من المقاعد.. لن تتغيّر النتيجة؟

سكينة بريطانيا… وقلق فرنسا

لا شيء فوق العادة حدث لبريطانيا. المشهد السياسي تقليدي كما هو على قدمه. الأحزاب الكبرى تحافظ على فضاءاتها التقليدية فلا تُحدث الانتخابات إلا تبدّلاً طفيفاً في حياة الناس وقوانين المملكة وتقاليدها.

أمّا الذي يحدث في فرنسا فهو زلزال يطيح بتقاليد جمهورية شارل ديغول الخامسة وبتوازنات الدولة واستقرار البلد. فقد ارتكب ماكرون خطيئة كشفت البلد وفضحت تصدّعاته العتيقة. وفيما صناديق الاقتراع ستدلي بدلوها، فإنّ في الأمر ما قد يؤدّي إلى انهيار السياسة والانزلاق نحو حرب أهلية وفق كلمات ماكرون نفسه الذي حذّر من أخطارها وكأنّه بريء من إشعال فتيلها الخبيث.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

فلسطين أم خيبر؟! لبنان أم كربلاء؟!

نهجان يقرآن أزمة لبنان. نهجٌ يرى أنّنا في مواجهة عمرها 1,400 عام. ونهجٌ آخر لبناني يرى أنّ الأزمة هي في كيفية إبقاء قضية فلسطين بوجه…

أين بيروت التي “تحترق ولا ترفع رايةً بيضاء”؟

بدت بيروت يوم الخميس الفائت، بعد تحليق طائرة استطلاع وخمسة إنذارات كاذبة تنذر بقصف إسرائيلي، مدينةً لا تشبه تلك التي كانت هنا وفيها وُلدنا ونشأنا…

بلينكن وهوكستين… مبعوثا الوقت الضائع

الحرب تزداد اشتعالاً في غزة، ولا مؤشرات على توقفها، وكذلك الحرب على الجبهة الشمالية، تشتد كل يوم وتتصاعد وتتضاعف أهدافها. تحت ضغط القتال على الجبهتين…

أمور خطيرة ليست للرّؤية ولا للكتابة؟

 هل هناك عصر إسرائيلي مقبل؟ لا يبدو ذلك صحيحاً على الرغم من تأكيدات نتنياهو. فالقضية الفلسطينية هي همٌّ عالمي وليست همّاً عربيّاً وحسب. أمّا الميليشيات…