كيف فشل المشروع الإسرائيليّ في غزة؟

مدة القراءة 5 د

لم تكن جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية دون هدف. ولم تكن جرائم انتقامية فقط من أحداث 7 أكتوبر. إنّها جرائم تحمل مشروعاً سياسياً. ويقضي المشروع بتهجير أهل غزة أو أكثريّتهم الساحقة إلى سيناء عبر بوّابة رفح. أقفلت مصر البوّابة وعضّت على جرح الألم. وتجاوب الغزّيون في تحمّل نتائج البوّابة المغلقة وهم يعرفون جيداً كمهجّرين سابقين معنى التهجير الجديد.

فماذا بعد فشل المشروع الإسرائيلي في تهجير أهل غزة إلى مصر (سيناء)؟

لا تهجّر إسرائيل الفلسطينيين بالقوّة المسلّحة لمجرّد التهجير. فالتهجير عندها هو جزء من برنامج سياسي أشمل وأوسع. ويتمثّل في تحويل تجمّعات اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية التي يُهجَّرون إليها إلى قنابل أمنيّة وسياسية موقوتة. هكذا حدث في الأردن (أيلول الأسود 1970)، وهكذا حدث في لبنان (تلّ الزعتر في 1976، وصبرا وشاتيلا في 1982)، وهكذا حدث في سورية (اليرموك 1990).

لا تهجّر إسرائيل الفلسطينيين بالقوّة المسلّحة لمجرّد التهجير. فالتهجير عندها هو جزء من برنامج سياسي أشمل وأوسع

نقل المقاومون الفلسطينيون سلاحهم من عمّان إلى بيروت، فدمّر الإسرائيليون مخيّم صبرا وشاتيلا فوق رؤوس أهله، وحوّلوا المخيّم إلى مسلخ بشري بقيادة الجنرال أرييل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي نفسه. وتمكّنت المخابرات المتداخلة (دولياً وعربياً) من تحويل مخيّم عين الحلوة إلى بؤرة للصراع الفلسطيني – اللبناني، ثمّ الفلسطيني – الفلسطيني حتى أُنهكت كلّ الأطراف.

ليس تهجير الفلسطينيين سياسة مقصودة للتخلّص منهم فقط. فللتهجير هدف آخر، وهو تحويل مخيّمات التهجير إلى قنابل موقوتة في المجتمعات العربية المتاخمة لإسرائيل.

استطاعت مصر أن تبقى بمنأى عن تداعيات هذه السياسة التخريبية والاستنزافية للطاقات البشرية والمعنوية العربية. وحاولت إسرائيل اختراق هذه السياسة المصرية من خلال تهجير أهالي غزة. ولذلك مارست القوات الإسرائيلية كلّ أنواع الجرائم ضدّ الإنسانية ليس للانتقام فقط، إنّما للتهجير في الدرجة الأولى. ولكن لا الغزّيون استجابوا للضغوط (منع الماء والغذاء والدواء مع القتل والتدمير العشوائي)، ولا مصر استجابت للعواطف الإنسانية والقومية على حساب البعد الاستراتيجي للمصالح الفلسطينية والمصرية معاً.

لماذا فشل مشروع التهجير؟

لعب عاملان دوراً أساسياً في فشل الحرب الهمجية الإسرائيلية على غزة:

العامل الأوّل فلسطيني – غزّي. ويتمثّل في التمسّك بأرض الوطن الفلسطيني على الرغم من كلّ عذابات القتل والتدمير، وعلى الرغم من إجراءات التجويع والتعطيش التي مارستها، ولم تزل تمارسها، القوات الإسرائيلية بقرار سياسي.

ليس تهجير الفلسطينيين سياسة مقصودة للتخلّص منهم فقط. فللتهجير هدف آخر، وهو تحويل مخيّمات التهجير إلى قنابل موقوتة في المجتمعات العربية

أمّا العامل الثاني فهو عامل الصبر المصري على مقاومة محاولات تهجير أهل غزة إلى سيناء. فمصر تدرك أنّ الاستجابة “الإنسانية” للتهجير كانت تعني تقديم غزة على طبق من فضة لإسرائيل، ثمّ تحويل سيناء إلى منطقة استيطانية جديدة على غرار مخيّمات لبنان والأردن وسوريا، وتحويل هذا المخيّم الجديد إلى قنبلة موقوتة في خاصرة الوحدة الوطنية المصرية.. والأمن المصري.

تعتبر إسرائيل أنّ تهجير الفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية التي تحتلّها، هو تهجير للقضية الفلسطينية، بمعنى تحويل الصراع من فلسطيني – إسرائيلي إلى صراع فلسطيني – لبناني، وفلسطيني – أردني، وفلسطيني – سوري، والآن فلسطيني – مصري. وبالتالي تحويل القضية الفلسطينية من قضية حقّ فلسطيني وطني تغتصبه إسرائيل، إلى صراع استنزافي للإمكانات المعنوية والمادّية العربية بما فيها الفلسطينية.

صمود مصر أمام الضغوط

كانت إسرائيل تراهن على أنّ إصرار مصر على موقفها بإقفال معبر رفح في وجه الهجرة القسرية الفلسطينية من غزة إلى سيناء، سوف يجعلها تتعرّض لانتقادات وضغوط داخلية وعربية وخارجية تحملها على التراجع بفتح المعبر لأسباب إنسانية. لكنّ مصر عضّت على الجرح وآثرت المصلحة القومية العليا للفلسطينيين ولمصر، وأصرّت على إقفال المعبر تفشيلاً لمخطّط نتنياهو التهجيري.

إقرأ أيضاً: نتنياهو يربح معركة الرئاسة الأميركية؟

أدّى هذا الموقف إلى ليّ الذراع الإسرائيلية سياسياً وعسكرياً، ثمّ إلى فتح نافذة أمام مبادرة دولية جديدة أطلقها الرئيس الأميركي جو بايدن تقوم على مبدأ حلّ الدولتين، بحيث تكون غزة جزءاً لا يتجزّأ من الدولة الفلسطينية العتيدة.

يجسّد هذا التطوّر فشل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ببعْدها الإلغائي للشعب الفلسطيني من جهة، وببعْدها التآمري على الأمن المصري من جهة ثانية. وبدلاً من ذلك تحوّل قطاع غزة إلى بوّابة لإخراج نتنياهو من السلطة مذموماً مدحوراً، كما تحوّل إلى المدخل الرئيس للعبور إلى الدولة الفلسطينية العتيدة.

مواضيع ذات صلة

فلسطين أم خيبر؟! لبنان أم كربلاء؟!

نهجان يقرآن أزمة لبنان. نهجٌ يرى أنّنا في مواجهة عمرها 1,400 عام. ونهجٌ آخر لبناني يرى أنّ الأزمة هي في كيفية إبقاء قضية فلسطين بوجه…

أين بيروت التي “تحترق ولا ترفع رايةً بيضاء”؟

بدت بيروت يوم الخميس الفائت، بعد تحليق طائرة استطلاع وخمسة إنذارات كاذبة تنذر بقصف إسرائيلي، مدينةً لا تشبه تلك التي كانت هنا وفيها وُلدنا ونشأنا…

بلينكن وهوكستين… مبعوثا الوقت الضائع

الحرب تزداد اشتعالاً في غزة، ولا مؤشرات على توقفها، وكذلك الحرب على الجبهة الشمالية، تشتد كل يوم وتتصاعد وتتضاعف أهدافها. تحت ضغط القتال على الجبهتين…

أمور خطيرة ليست للرّؤية ولا للكتابة؟

 هل هناك عصر إسرائيلي مقبل؟ لا يبدو ذلك صحيحاً على الرغم من تأكيدات نتنياهو. فالقضية الفلسطينية هي همٌّ عالمي وليست همّاً عربيّاً وحسب. أمّا الميليشيات…