أوروبا.. أوطان بلا أجانب وغرباء

مدة القراءة 6 د

جوردان بارديلا، شابّ فرنسي في مقتبل العمر، نجح في دفع اليمين المتطرّف الفرنسي نحو نتائج تاريخية في الانتخابات الأوروبية الأخيرة. يطمح الآن إلى تولّي رئاسة الوزراء بعد الانتخابات العامّة المبكرة هذا الشهر. سرّ قوّته عداؤه المطلق للمهاجرين، واللعب على أوتار رهاب الأجانب واستغلال “التيك توك” لنشر حملته على العمالة الآتية من خلف الحدود، لا سيما المسلمة منها. وعده الأوّل للفرنسيين في حال تولّيه السلطة هو تمرير قانون للهجرة في الأسابيع الأولى من ولايته، وتسهيل ترحيل المجرمين والإسلاميين الأجانب وإلغاء حقّ الحصول على الجنسية الفرنسية بالولادة .

 

مطالبه ومطالب أمثاله في الأحزاب الأوروبية الشقيقة لحزبه تلاقي صدى واسعاً في أوساط الشباب والريفيّين الأوروبيين عموماً الذين منحوا أكثر من ربع أصواتهم لتلامذة العقائديين جان راسباي ورونو كامو وشارل موراس وغيرهم من المنظّرين الذين أنجبت أفكارهم وأفكار أمثالهم في السابق ديكتاتوريّين أمثال الألماني هتلر والإيطالي موسوليني والإسباني فرانكو والبرتغالي سالازار والنمساوي دولوفوس واليوغوسلافي ستويادينوفيتش. لم يقترع هؤلاء بدافع احتجاجيّ عابر غاضب على حدث طارىء أو مشكلة آنيّة. أحزاب اليمين المتطرّف ليست “بنوك غضب”، بل هي “بنوك هويّة” يجري التصويت لمصلحتها من جماعات مختلفة تشعر أنّ مجتمعاتها باتت مهدّدة بهويّتها وثقافتها.

الصدام الثقافي

بعض الجاليات المسلمة التي تكاثرت في مدن أوروبية عاشت مشتّتة بين ثقافتين: ثقافتها الإسلامية التي تعكس الهويّة الدينية الفطرية، والثقافة الغربية التي تعكس الهويّة الوطنية المكتسبة. رفض بعضها استيعابه ضمن هويّة مدنية تلغي خصوصيّته الدينية والثقافية. ولم يتوانَ البعض الآخر عن إظهار صورة مسيئة للإسلام أثارت الخوف والتذمّر في نفوس الأوروبيين. تصرّف هؤلاء وكأنّهم وحدهم الصحّ والبقيّة الباقية على ضلال. هذا الخوف ترجمه أوروبيون خياراً سياسياً في صناديق الاقتراع. في المقابل يحتاج الغرب، الذي اعتاد تحميل الآخرين المسؤولية، إلى عدوّ سياسي من أجل البقاء. وبعد سقوط الشيوعية التي كان يمثّلها الاتحاد السوفيتي، استبدل الغرب “الخطر الأحمر” بـ “الخطر الأخضر” أو الإسلام الذي اعتبره خطراً على نمط حياته وثقافته وهويّته.

بعض الجاليات المسلمة التي تكاثرت في مدن أوروبية عاشت مشتّتة بين ثقافتين

أوروبا التي لم تترك جزيرة نائية أو بقعة من بقاع الأرض إلا واستوطنتها بجيوشها وتجّارها والمزارعين والصيّادين يضيق صدرها بالضيوف المهاجرين. هي التي نصّبت نفسها حامية للإنسانية وحقوق الإنسان وحرّية التعبير لم تعد تحتمل كلمة لاجىء أو مهاجر أو مختلف دينياً أو ثقافياً. هي أصلاً لم تستقبلهم رأفة أو كرمى لسواد عيونهم. المهاجرون حاجة لأوروبا للحفاظ على توازنها الديمغرافي وعلى التوازن بين من هم في سوق العمل ومن خارجه. وعلى خلاف الفكرة الراسخة، هؤلاء ليسوا عبئاً، إذ لا توجد علاقة سببيّة بين البطالة والهجرة، كما أنّ مساهمتهم في البناء الاقتصادي يعتدّ بها.

أوروبا

ومع ذلك تستخدم كلّ الدول الأوروبية عبارة “أزمة” عند الحديث عن اللاجئين، وكأنّها تعتبر أنّ أعداد هؤلاء فاقت المعقول وباتوا يهدّدون أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية، وتنظر إليهم على أنّهم مشكلة.. وهذا يجافي الحقيقة.

فكرة الطفح

وراء استخدام كلمة “أزمة” تكمن فكرة الطفح. وبالفعل تسعى السلطات إلى حلول تقلّص أعداد المهاجرين، وبدلاً من أن ينفق الاتحاد الأوروبي الأموال على استقبالهم وإعداد المقوّمات اللازمة لحسن اندماجهم في المجتمع الجديد، يصرف المبالغ الطائلة على مراكز اعتقالهم وبطاقات ترحيلهم وأمن المرافئ الحدودية.

أوروبا تنحاز أكثر وأكثر إلى فكرة “وطن بلا أجانب”، وتميل إلى التعصّب والانعزال ورفض الآخر الآتي من البعيد هرباً من الموت أو بحثاً عن لقمة عيش وحياة أفضل. وصار خوف المواطن الأوروبي الأبيض من أصحاب السحن السمر، يحرّك اتّجاهات الرأي العامّ نحو التقوقع وإحكام إقفال الأبواب والنوافذ ضدّ كلّ آتٍ من بعيد.

في مناخ كهذا، يصبح العقل مشلولاً، ولا يعود الاحتكام إلى الحوار علاجاً مجدياً. الغرائز تتحكّم بالسلوك وبالقرار، وهي التي تدفع قادة يعرفون كيف يمكن استغلال هذه الغرائز إلى الصفوف الأولى.

أوروبا التي لم تترك جزيرة نائية أو بقعة من بقاع الأرض إلا واستوطنتها بجيوشها وتجّارها والمزارعين والصيّادين يضيق صدرها بالضيوف المهاجرين

هكذا لا يعود غريباً أن ينجح اليمين الأوروبي المتطرّف في تثبيت شرعية فكره المتشدّد، وأن يمحو نسبياً صورته الشعبوية أمام رأيه العامّ، ليصبح مقبولاً سياسياً. لذلك التصويت الأخير في الانتخابات البرلمانية الأوروبية ليس فقط مؤشّراً إلى تغيّر ملحوظ في مزاج الناخب الأوروبي، وإنّما هو بداية تحوّل عميق داخل الرأي العام الأوروبي الغربي من شأنه أن يسحب أوروبا تدريجياً نحو أقصى التطرّف، في ظلّ فشل الأيديولوجيات الأخرى والأفكار البديلة في إيجاد حلول لمشكلات الغرب المتضخّمة. ومع دخول هذا العدد الهائل من دعاة السيادة الوطنية من اليمينيين المتطرّفين إلى البرلمان الأوروبي، والمؤيّدين للحمائية الاقتصادية، ومناهضي القضايا الأوروبية الرئيسية، سواء تعلّق الأمر بالمناخ أو الطاقة أو سياسة الهجرة، فإنّ خطر أن يسعى هؤلاء البرلمانيون الأوروبيون اليمينيون إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي من الداخل يبقى قائماً، حتى وإن كان غير معلن بطريقة واضحة في جميع برامج هذه الأحزاب المناهضة للتكتّل القارّي في شكله القائم حالياً.

الأخطر من ذلك نزوع قطاعاتٍ من الرأي العام في هذه الدول، الحسّاسة جداً لمسألة الأمن الفردي والوطني، إلى وضع هذه الجرائم في سلّة فئةٍ ما من السكّان، الفقراء والمهمّشين في الماضي، والمهاجرين واللاجئين والأجانب في الوقت الحاضر، وترسيخ اعتقاد عميق بأنّ العنف هو من الثوابت في ثقافة هؤلاء، وتالياً تغذية نزعة تمييز عنصري متنامٍ ضدّهم يُفاقم من عزلهم عن المجتمع وتهميشهم، ثمّ يدفع المضطربين منهم إلى تبنّي خطاب التطرّف ومشاعر الحقد والانتقام ضدّ الغالبية من السكّان.

إقرأ أيضاً: أميركا تقتل “قِيَمها” بيدها

بين غالبيّات قلقة من اجتياح الأجانب بلادها وتهديدهم طرائق حياتها تجنح تدريجاً إلى التعصّب والعنصرية، وبين تنامي روح الانتقام البشع في أوساط قلّة مهمّشة ومضطربة، يبقى اللاجئون والمهاجرون والأجانب الحلقة الأضعف في هذه الدائرة.

مواضيع ذات صلة

فلسطين أم خيبر؟! لبنان أم كربلاء؟!

نهجان يقرآن أزمة لبنان. نهجٌ يرى أنّنا في مواجهة عمرها 1,400 عام. ونهجٌ آخر لبناني يرى أنّ الأزمة هي في كيفية إبقاء قضية فلسطين بوجه…

أين بيروت التي “تحترق ولا ترفع رايةً بيضاء”؟

بدت بيروت يوم الخميس الفائت، بعد تحليق طائرة استطلاع وخمسة إنذارات كاذبة تنذر بقصف إسرائيلي، مدينةً لا تشبه تلك التي كانت هنا وفيها وُلدنا ونشأنا…

بلينكن وهوكستين… مبعوثا الوقت الضائع

الحرب تزداد اشتعالاً في غزة، ولا مؤشرات على توقفها، وكذلك الحرب على الجبهة الشمالية، تشتد كل يوم وتتصاعد وتتضاعف أهدافها. تحت ضغط القتال على الجبهتين…

أمور خطيرة ليست للرّؤية ولا للكتابة؟

 هل هناك عصر إسرائيلي مقبل؟ لا يبدو ذلك صحيحاً على الرغم من تأكيدات نتنياهو. فالقضية الفلسطينية هي همٌّ عالمي وليست همّاً عربيّاً وحسب. أمّا الميليشيات…