وطن المعارضات والتعارضات… لا تحالفات ولا عداوات ولا مصالح

2024-06-02

وطن المعارضات والتعارضات… لا تحالفات ولا عداوات ولا مصالح

 منذ نشأة الكيان اللبناني والصراعات في البلد تُخاض بآفاق فكرية، منها القومي واليساري والديني. وعلى هذا نشأت تحالفات أعطت في الشكل الأفق الاجتماعي، فيما كانت الوقائع تشير إلى مناحٍ أخرى وجوهرها الدفع بالوطن الساحة إلى الوطن الدولة.

 

كان عالم الاجتماع الألمانيّ ماكس فيبر، قبيل وفاته وفي ذروة نضجه الفكريّ، قد ترك لنا نصّاً عن “السياسة كدعوة”، جادل فيه بأنّ السياسة فنّ خاصّ لا يتحمّل ممارسوه، إلّا نادراً، أن يكونوا صافي الصفاء الذي يُطالَبون به، ولا يتحمّلون أبداً أن يكونوا بسطاء.

كانت مفارقة فيبر، التي خلص إليها الكاتب السياسي حازم صاغية، هي الآتية: “إنّ الرجل الذي تكون السياسة لديه بمنزلة رسالة مُجبرٌ أن يفعل ما قد يكون ممنوعاً أخلاقيّاً. فهو قد يجيز الأكاذيب، بل الانتهاك في ظروف قصوى، لكنْ ما دام مسؤولاً عن النتائج العامّة للعمل، أو عن عدم القيام به، فإنّه يتحمّل بالنيابة عنّا أعباء العمل الشرّير”. فما يرسخ هو المسؤوليّة حيال النتائج، أي حيال تطابقها مع ما هو أخلاقيّ في آخر المطاف وخدمتها له. وهنا يكمن قلب الموقع الفيبريّ الذي يتضمّن أنّ مهنة رجل السياسة هي أن يكنّ التقدير للنتائج العامّة والبعيدة لما يفعل، وأن تقيم دائماً في حساباته.

بلغة أخرى، وضدّاً للانتهازيّة التي قد تُشتقّ من فهم سطحيّ لمقولة “الغاية تبرّر الوسيلة”، فإنّ معرفة النتائج تبقى موضوعاً مركزيّاً في تقدير ماكس فيبر، مع أنّ هذا يتركنا أمام أمر إشكاليّ آخر: كيف نقدّر النتائج سلفاً وفي أيّ ضوء؟ وهذه هي مسؤولية الأحزاب على تعريفها ودورها.

كلّ المشهد يقول إنّ لبنان وطن قبليّ. له قدرة استثنائية على استدراج عروض للاشتغال فيه

لقد جادل عالم الاجتماع الألمانيّ بأنّ هناك نزاعاً لا يقبل التسوية بين إملاءات السياسة والإملاءات الأخلاقيّة. لكنّه، كما يقول، على بيّنة من المفارقة الكامنة في أنّ رجل السياسة “ينبغي عليه”، أي أنّه مُجبر أخلاقيّاً، بفعل التزامه دعوته، أن يشيع أرفع المطالب الأخلاقيّة. ثمّ يمضي فيبر فيستشهد موافقاً بمديح ماكيافيللي للمواطن الذي يفضّل عظمة المدينة وسلامتها على خلاصه الروحيّ: فما دام جوهر القيادة السياسيّة في الأزمنة الصعبة هو استعداد القائد لأن يعرّض نفسه للخطر من أجل الجماعة، فإنّ أحد أبطال ماكيافيللي الفلورنسيّين امتدح أولئك السكّان الذين اعتبروا “عظمة مدينتهم الأصليّة أعلى من خلاص روحهم”، وهذا ما أمعن فيه صاغية.

في غير موضع يميّز فيبر بين أخلاقيّة الإيمان الراسخ، أو القناعة الراسخة، وبين أخلاقيّة المسؤوليّة لدى السياسيّ. وهو تمييز في تسيير الشأن العامّ، بين أخلاقيّة النهائيّات وأخلاقيّة الراهن المسكون بالنهائيّ. فالذي يتبع الأولى لا يهتمّ فعليّاً بالسلطة السياسيّة ولا يتحمّل المسؤوليّة عن نتائج عمله. بهذا المعنى يتّضح الواقع اللبناني.

الخريطة المملّة

مشكلة انعدام التحالفات تعود إلى جذر أصلي جوهره غياب النصّ السياسي. ليس المطلوب مانيفستاً سياسيّاً حتماً، لأنّ المأمول هو الاندفاع نحو الأمام لا التثوير والثورة. التحالفات في لبنان عرضية لا تكون السياسة همّها الأوّل. التحالفات عندنا تحكمها المقاعد النيابية لا البرامج.

ـ القوات والكتائب حالهما الأوضح، فكلاهما يدّعي الخروج من الرحم ذاته، لكن لا شيء تحقّق أو سيتحقّق. رئيس القوات يقيم في قلعة معراب وينتظر زحف الجموع لمبايعته كخلاص سياسي.

ـ رئيس حزب الكتائب يخاطب نفسه وحدها ولا يعبر المتحف إلى البربير. مثله كمثال سمير جعجع. الاثنان يقيمان في جمهورية المدفون ـ كفرشيما. ذلك أنّ سامي الجميّل ما يزال يصرف من أرصدة سياسية بعضها يعود للرئيس بشير الجميّل وغيرها يعود لوالده الرئيس أمين الجميّل.

المشكلة الحقيقية في لبنان تكمن هنا لا تحالف ذا ثقل ووزن يعيد التوازن إلى الحياة السياسية في لبنان

ـ الثنائي الشيعي على ما يزعم من تحالف إلا أنّ الصراعات في بيادره لا تتوقّف. تشهد بذلك الصراعات، ومنها تلك التي ذات طابع ديني (عاشوراء). يمارس بعضهما التقيّة على بعض.

ـ الحزب التقدّمي الاشتراكي الذي يحاذر خوفاً من عدد وعديد الآخرين هو درزيّ الهوى والهويّة. هو حزب وطني ملتبس في طائفيّته، وهو طائفي ملتبس بوطنيّته. شأنه في ذلك شأن كلّ القوى الأخرى.

ـ التيار الوطني الحرّ بلغ أوجه في إبرام التسويات، لكنّه الآن وحيد. ولم يعد يُعرف عنه غير سعي دؤوب وحثيث نحو تحقيق استقطابات تركن في جميعها إلى اللغة الطائفية: لغة الخوف من كلّ آخر.

ـ وحدها السُنّيّة السياسية تكابد أمر معرفة نظام المصلحة. فهي إذ تشكّل أرجحية لبنانية، إلا أنّ ما يتنازعها من حاضر يبعث على القلق. فالساعون إلى إحكام قبضتهم عليها يظهرون على تشابه مع “نظام التفاهة” ولا يفقهون شيئاً عن الطائفة وزناً وحجماً وفعّالية. فهم “أهل الأمّة” على ما يقول الوزير نهاد المشنوق.

ـ حتى الحزب صار بلا حلفاء، و”الثنائية” صارت عبئاً لكلا الطرفين. وإذ تمعن هذه الثنائية في “الحفظ الطائفي” إلا أنّ أضلعها صارت ثقيلة على الاجتماع الوطني اللبناني. فالحزب محلّ استهداف سياسي يومي وعلى كلّ المستويات. حرب غزة ليست وحدها السبب، بل ما سبق عليها من “فائض قوّة” راح يُعبّر عن نفسه في طول البلد وعرضه. أمّا حركة أمل فقد صارت نسياً منسيّاً، لكن ما يسعفها بشكل استثنائي هو رئيس البرلمان نبيه بري.

الأمن أوّلاً

تحالفات الحزب كانت ثابتة لا تتسلّل إليها التفاصيل، سواء سال منها لبن وعسل أو سال على جنباتها دمٌ. لم يتحالف مع أحد قبل أن يبايعه على سلاحه، وقبل أن يجلس معه في ظلال صورة الوليّ الفقيه وتوجّهاته وتحالفاته وامتداداته. السلاح والمقاومة وملحقاتهما من آخر مقعد نيابي وأصغر موظّف أمنيّ وصولاً إلى رئيس الجمهورية، والباقي تفاصيل.

 العالم السنّيّ الممتدّ من البحر إلى البحر يتغيّر دول تنهض ودول تتراجع. دول وتيّارات تتصدّر وأخرى تتأخّر بعد سطوة

من تحالف معه حالفته المناصب والمكاسب، ومن ابتعد عنه ابتعد عنها. أكثر من ذلك، في جعبة الحزب إنجازات للحلفاء لا تُعدّ ولا تُحصى. يحالف الحزب حتى رئاسة الجمهورية. وحتى رئاسة المجلس النيابي. وحتى رئاسة الحكومة. يحالف حتى الموت، ويحالف حتى الفراغ.

تحالفات

الحلفاء أكثر من أن يُعدّوا ويحصوا من الرئيس السوري بشار الأسد مروراً بالرئيسين ميشال عون ونبيه بري وصولاً إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث، ومن إيران نفسها إلى اليمن الحوثيّ مروراً بالدول وتجاوزاً للحدود.

على الضّفّة الأخرى

في المقابل، يبدو خصومه أو أقرانه من القوى والأحزاب والشخصيات السياسية بلا تحالفات تقريباً. في أحسن الأحوال يبدون بتحالفات كرتونية، أو تحالفات من ورق. الخلافات على التفاصيل فيها تُنجز قبلها. تحالفات هي أقرب إلى الموءودات زمن الجاهلية. تُدفن فور إعلانها. أطول تحالف بين القوى المسيحية عمره ستّ سنوات. عهد رئاسي كامل. الخلافات بينهم تدوم عهوداً. ينطلق التحالف قبيل الرئاسة أو بُعيدها، وينتهي قبل انتهاء ولايتها، حسب المعركة والظروف.

في خضمّ الانتخابات والتحالف لا تستطيع أن تقول إنّ حزبَي الكتائب والقوات اللبنانية متحالفان. لا أحد يجرؤ على الجزم في الأمر. صحيح أن ليست في السياسة تحالفات دائمة ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة، كما قال رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل يوماً، لكن حتى هذه غير متوافرة. لا مصالح دائمة بين القوى المسيحية في لبنان ولا عندها. حتى المصالح لا تدوم، ربّما لأنّه ليست فيها مصلحة لهم. التاريخ خير شاهد. الواقع شاهد أشدّ راهنيةً وتصديقاً.

كلٌّ يريد وكلّ يدوّر ما يريد، ويناور ويُبطِن ويُظهِر. والنتيجة لا تحالف. بل تكاذب فقط. تكاذب يسرح الحزب في أثنائه ويأخذ البلاد إلى أقصى الحرب ويعود، ولا من يسائل. يقرّب طرفاً ويقطع مع طرف، داخلياً كان هذا الطرف أو إقليمياً أو حتى دولياً. لا يُرى في لبنان غيره. حزب ثابت بتحالفات ثابتة. غيره يكون السؤال معهم دائماً ومنذ اللحظة الأولى: متى الفراق؟ متى ينتهي كلّ هذا؟

صحيح أن ليست في السياسة تحالفات دائمة ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة، كما قال رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل يوماً

التحالفات المسيحية تصلح لأن تكون قبل الحدث بدقائق أو قبل الهدف بأمتار قليلة. لكن حتى هذا غير مضمون النتائج. كثر ناموا في تاريخ لبنان رؤساء للجمهورية، واستيقظوا خارج جنّة الحكم.

لا يقتصر الأمر على القوى المسيحية فيما بينها، بل وصلت العدوى إلى غالبية القوى من مختلف الطوائف. ولا يستطيع المراقب تكهّن ما ستلتقطه رادارات المختارة من ذبذبات وإشارات، وتبني على الشيء مقتضاه من تحالفات. لا سبيل إلى ذلك.

يصعب الأمر كذلك في البيئة السنّيّة. العالم السنّيّ الممتدّ من البحر إلى البحر يتغيّر. دول تنهض ودول تتراجع. دول وتيّارات تتصدّر وأخرى تتأخّر بعد سطوة.

لبّ المشكلة

المشكلة الحقيقية في لبنان تكمن هنا. لا تحالف ذا ثقل ووزن يعيد التوازن إلى الحياة السياسية في لبنان. لا صوت موحّداً يصمد في المعركة. أصوات من كلّ حدب وصوب تذهب أدراج الرياح. أصوات متفرّقة تواجه صوتاً واحداً يُسمع صداه في دول المنطقة كلّها، وتميل كفّة الميزان إلى قوله.

آخر تحالف كان 14 آذار ولقاء البريستول. كم عاش؟ وُئد في مهده على الرغم من الإنجازات التي حقّقها. كم عُمر أيّ تحالف قد يولد قريباً؟ لن يعيش أكثر من شغور منصب في الدولة، أو لن يعايش معركة انتخابية حتى لو كانت على مستوى مخاتير أو بلديّات. لماذا؟ لأنّ المطالب صغيرة وآنيّة وضيّقة. لا خطّة عمل لدى المعارضات اللبنانية. لا مشروع واضحاً ومبلوراً عندها. القوى السياسية اللبنانية تشتغل على القطعة. فريلانس. وتختلف في العموميّات. كلّ طرف فيها يريد لبنان ويطالب باستقلاله وسيادته ووحدته ونهوضه وازدهاره وتقدّمه… على طريقته. لا لبنان واحداً. بل لبنانات. لدينا لبنانات بعدد المعارضات. لكلٍّ لبنانه الذي يختلف مع الجميع عليه، ولا يصارح أحداً بكنهه. للآخرين أن يتكهّنوا به، وأن يتحالفوا معه أو يختلفوا عليه… وهذا كلّه إلى حين.

تحالفات الحزب كانت ثابتة لا تتسلّل إليها التفاصيل سواء سال منها لبن وعسل أو سال على جنباتها دمٌ

إنّه وطنٌ السياسةُ فيه بلا تحالفات دائمة ولا عداوات دائمة ولا حتى مصالح. وطن المعارضات التي لا تلتقي ولا تتحالف ولا تسمن ولا تغني من جوع.

إقرأ أيضاً: عيد المقاومة… متى التّحرير؟

كلّ المشهد يقول إنّ لبنان وطن قبليّ. له قدرة استثنائية على استدراج عروض للاشتغال فيه. هذا تاريخه. واللجنة الخماسية ليست نهاية المطاف. المشهد السياسي القائم من طبيعة قبلية، والقبلية ليست محترمة في الدول. صار البلد رخيصاً. وذاكرته عن تجارب كهذه قصيرة. وبالتالي العقول المصنوعة من لغة كهذه سخيفة ومملّة. هذا هو حال وطن النجوم اليوم.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

فتنة غزّة: الجماعة الإسلاميّة و”فقه الأولويّات”..(3/2)

يواصل الحزب جاهداً صناعة صورة “الزعيم” للأمين العام للجماعة الإسلامية محمد طقوش. بداية، من استقبال الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله له بعد انتظار لعدّة…

نتنياهو ينافس إيران على “الرّئاسة” الأميركيّة

واجه بنيامين نتنياهو معارضيه في الداخل من واشنطن، من خلال استعراض مهاراته بمخاطبة العقل الأميركي في كلمته أمام الكونغرس الأربعاء. لذلك تعرّض خطابه للانتقاد والسخرية…

الخطاب الرّابع… بداية سقوط المدلّل

للمرّة الرابعة يقف مدلّل الكونغرس بنيامين نتنياهو خطيباً في القاعة الرئيسية ومن على المنبر الأعلى. ونظراً ليقين الـ “Congressman” بأنّ المدلّل يعاني في إسرائيل من…

تذاكي “بيبي”… وسذاجة الكونغرس

يكشف الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتانياهو في الكونغرس، بين ما يكشف، لعبة التذاكي التي يمارسها رئيس الحكومة الإسرائيلية في مواجهة سياسيين أميركيين…