“صندوق النقد” يحاور المصارف: الهروب من الدولة اليائسة..

2024-05-29

“صندوق النقد” يحاور المصارف: الهروب من الدولة اليائسة..

لم تأتِ بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان في بيانها الأخير على أيّ ذكرٍ للاتّفاق (القرض) الذي توصّل إليه رئيس البعثة إيرنستو راميريز وفريقه مع السلطات اللبنانية قبل عامين (أعلن في 7 أيار 2022)، وهو ما يطرح السؤال عن مغزى الزيارة وتوقيتها في وقتٍ ضائعٍ من تاريخ الحكم في هذا البلد.

 

يفترض أن تأتي البعثة إلى لبنان لواحدٍ من هدفين: إمّا في إطار مشاورات الفقرة الربعة (Article IV)، التي ينتج عنها تقرير استشاري سنوي حول الأوضاع الماليّة والنقدية والاقتصادية، وإمّا أن تكون في إطار متابعة الاتّفاق المعلن سابقاً أو التفاوض لإنتاج اتّفاق جديد. الغريب أنّ الزيارة لم تكن لأيٍّ من هذين الهدفين، فمشاورات الفقرة الرابعة متوقّعة في أيلول المقبل، واتّفاق القرض لم يكن على جدول أعمال الزيارة أصلاً.

اللافت أيضاً أنّ بيان صندوق النقد الصادر في ختام الزيارة، لم يعلّق من قريب أو بعيد على آخر المشاريع الحكومية لمعالجة الأزمة، وهو “مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها”، الذي خرج إلى النور في شباط الماضي قبل أن يُسحب من التداول، ليلاقي المصير الذي لاقاه من قبله اقتراح قانون معالجة الفجوة الماليّة، الذي عُرض على لجنة المال والموازنة النيابية مطلع العام الماضي، ومشروع قانون “إصلاح وضع المصارف” الذي ناقشته الحكومة في تشرين الثاني الماضي.

هذا كلّه يشير إلى أنّ الطاولة فارغة من المشاريع حالياً. الاتفاق مع الصندوق معطّل عمليّاً، وكلّ المشاريع التي تلته ساقطة. ولذلك كان لا بدّ من “تصفير العدّاد”، والعودة إلى المربّع الأوّل في مقاربة الواقع الجديد الذي أفرزه مسار الأحداث على مدار خمس سنوات منذ انفجار الأزمة عام 2019.

 يبدو الفريق الاقتصادي في الحكومة بائساً ويائساً فنائب رئيس الحكومة سعادة الشامي اختبر معنى أن يتصرّف كتقنيّ في غابة من المصالح والحسابات

تصفير العدّاد

المشكلة في “تصفير العدّاد” أنّه يبدأ من تقويم إشكاليّ للواقع الحالي، ظهرت ملامحه في بيان بعثة الصندوق، ومؤدّاه:

1- أنّ الأزمة الماليّة، أي الشقّ المتعلّق بخزينة الدولة، لم يعد البند الضاغط، ما دامت الخزينة متّجهة إلى تصفير العجز في ميزانية 2024. وبالتالي، لم تعد الدولة مضطرّة إلى البحث عن سبل استئناف التمويل الخارجي أو مفاوضة الدائنين أو طباعة الليرة لتمويل إنفاقها (لم يحدث ذلك بفضل أيّ إصلاح، بل بفعل التوقّف عن سداد استحقاقات الدين الخارجي وتآكل قيمة رواتب القطاع العامّ).

2- وأنّ الأزمة بشقّها النقدي لم تعد ضاغطة أيضاً، ما دامت احتياطيات مصرف لبنان تزداد، والليرة مستقرّة إلى حدّ ما منذ الصيف الماضي، والتضخّم إلى مستوياتٍ تحت السيطرة. وهذه تطوّرات تنسبها بعثة الصندوق إلى “تدابيرالسياسة التي اتّخذتها وزارة المالية ومصرف لبنان، بما في ذلك الإلغاء التدريجي للتمويل النقدي للموازنة، وإلغاء منصّة صيرفة والسياسة المالية المتشدّدة، والخطوات نحو توحيد أسعار الصرف“.

3- لكن بيت القصيد في بيان البعثة التحذير من عدم تمكّن الحكومة من إيجاد حلّ للأزمة المصرفية، باعتبار أن يؤدّي ذلك إلى استمرار “الاقتصاد النقدي والاقتصاد غير النظامي في النموّ”.

بغضّ النظر عن عدم سلامة أيّ تقويم إيجابي للوضعين الماليّ والنقدي، فإنّ النقطة الأخيرة تبقى القاسم المشترك بين مخاوف الخارج من استمرار الوضع المصرفي الراهن في لبنان، لأسباب تتداخل بالسياسة، وبمسارب التمويل الإيراني لأذرعتها في لبنان والمنطقة.

الواضح من نوعيّة لقاءات راميريز وفريقه أنّ الصندوق لا يعوّل على التفاوض مع الحكومة، ولا يرى فيها طرفاً يمكن أخذه على محمل الجدّ في أخذ الالتزامات على عاتقه والذهاب بها إلى مسرى الدورة التشريعية، كما هو الحال في أية دولة طبيعية.

لم تكن الودائع يوماً أولوية في منهجية صندوق النقد بل إنّه كان يقدّم أولوية تصحيح مسار الماليّة العامّ واستعادة النموّ الاقتصادي

في المقابل، يبدو الفريق الاقتصادي في الحكومة بائساً ويائساً. فنائب رئيس الحكومة سعادة الشامي اختبر معنى أن يتصرّف كتقنيّ في غابة من المصالح والحسابات، ورأى كيف تواطأت القوى السياسية المتناقضة على ضرب المشاريع التي هي من مندرجات الاتفاق مع صندوق النقد، وكيف كانت هذه القوى توافق على تلك المشاريع في الغرف المغلقة ثمّ تحرقها وتشيطنها في الإعلام، ثمّ تُجهز عليها على طاولة مجلس الوزراء، أو يتولّاها رئيس لجنة المال والموازنة ببعض أرانبه، (كما فعل حين أسقط مشروعَي قانونَي إعادة هيكلة المصارف وإعادة الانتظام المالي بعد الاتفاق مع الصندوق عام 2022).

العشاء الكبير

في زيارة الأسبوع الماضي، التقت بعثة الصندوق بمن يجدي اللقاء بهم، لا سيما في مصرف لبنان ومجلس النواب والمصارف. فهذه الأطراف الثلاثة تتوزّع بينها القدرة على التأثير في إعادة هيكلة النظام المصرفي. ولا غرابة في أن يكون عشاء بعثة الصندوق مع البنوك الكبرى المكان الأنسب للبحث في المقترحات العملية للوصول إلى هذه الغاية، التي يراها الصندوق ضرورية لإعادة حركة رؤوس الأموال إلى الاقتصاد الرسمي والقضاء على اقتصاد الظلّ.

صندوق النقد

في المقابل، فإنّ للبنوك الكبرى مصلحة أكيدة في تطبيع الأوضاع بعد خمس سنوات من الأزمة، ليعود الانتظام إلى ميزانياتها وبياناتها المالية وأعمالها، ولتخفّف من مخاطر الدعاوى القضائية في لبنان والخارج. والحديث هنا عن المصارف الأقوى من حيث الملاءة والسيولة، والتي يجد ملّاكها أنّ من الملائم ضخّ رؤوس أموال جديدة بمقدار معقول إذا كان ذلك يكفي لطيّ دفاتر الأزمة والعودة إلى العمل المصرفي الطبيعي، من استقبال للودائع ومنح للائتمان وتمويل للاستيراد وغير ذلك.

تصطدم هذه المساعي بعقبات عدّة، أهمّها:

1- أنّ أيّ مسعى لإعادة هيكلة البنوك لا يمكن أن يتمّ من خلال آليّات السوق من دون تشريع يقرّه مجلس النواب، ليسمح بشطب شيءٍ من الودائع “رسمياً”. وهذا ما سيعيد النقاش حول توزيع الخسائر إلى المربّع الأوّل.

اللافت أنّ بيان صندوق النقد الصادر في ختام الزيارة لم يعلّق من قريب أو بعيد على آخر المشاريع الحكومية لمعالجة الأزمة

2- أنّ العدد الأكبر من البنوك غير قادرة على مجاراة إعادة الهيكلة وفق الشروط التي تستطيع المصارف الكبرى الإيفاء بها، ولذلك فإنّها معنيّة بعرقلة أيّة خطّة لا ترمي كرة المسؤولية بكاملها على الدولة، تحت شعار أنّ الأزمة نظامية شاملة.

3- أنّ المودعين سيحتجّون على أيّة خطّة تتضمّن شطب معظم الودائع التي تفوق مئة ألف دولار، وهو ما قد يؤدّي عمليّاً إلى تعطيل الحلول والإبقاء على الوضع القائم.

لم تكن الودائع يوماً أولوية في منهجية صندوق النقد. بل إنّه كان يقدّم أولوية تصحيح مسار الماليّة العامّ واستعادة النموّ الاقتصادي، ولا يحبّذ استخدام الأموال العامّة لإطفاء خسائر المصارف. لكنّه يقارب الأمر اليوم من باب أولوية إعادة الانتظام إلى القطاع المصرفي.

إقرأ أيضاً: هذه السياسة في لبنان… الإبادة الاقتصادية

ربّما أصبحت المعالجات أسهل نظريّاً بعد تذويب 50 مليار دولار من الودائع، وتوقّف التدفّقات الخارجة من النظام المالي. وبالتالي صار من الممكن البحث بتسوياتٍ توزّع الخسائر بين المودعين أوّلاً، ثمّ أصحاب المصارف (القادرة) تالياً. لكن تبقى محاولة اقتناص المخارج في فراغ الحكم والسياسة شائكة. فإيرنستو راميريز الاقتصادي ليس آموس هوكستين السياسي.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

مواضيع ذات صلة

المصارف والإقراض.. أحلام بعيدة المنال

التعميم الأساسي لمصرف لبنان الذي يحمل الرقم 150، والصادر في 9 نيسان 2020، كان واضحاً جداً لجهة الحسابات الجديدة (الفريش) المكوّنة بالعملة الأجنبية: يجب أن…

عودة التسليفات المصرفيّة.. حكاية البيضة والدّجاجة

لم ينقطع الحديث عن ضرورة عودة المصارف إلى تقديم التسليفات، منذ بداية الأزمة. إلّا أنّ هذا النقاش استعر أخيراً مع كلام حاكم مصرف لبنان بالإنابة…

مشاكل الكهرباء وانهيار الإدارات: مصرف لبنان تمسّك بالإصلاحات

تُساق منذ نحو أسبوعين وربّما أكثر حملة ضدّ مصرف لبنان، تتّهمه بخنق الاقتصاد وحجب الأموال عن الحكومة ومنعها من الإنفاق وتقديم الخدمات للمواطنين اللبنانيين. وجدت…

الذّهب ومجموعة BRICS يعيدان تشكيل الاقتصاد العالميّ

تأثير الاستثمار في الذهب على السيولة والنموّ الاقتصادي معقّد ويعتمد على عوامل متعدّدة بما في ذلك السياسات الاقتصادية، الاستقرار السياسي، وثقة المستهلك.   من الضروري…