وطن بلا ورق.. في وداع الصحف ولبنان

2024-04-05

وطن بلا ورق.. في وداع الصحف ولبنان

مدة القراءة 6 د.

أن تقفل جريدة أو تتوقّف عن إصدار نسختها الورقية، حدث ربّما يكون عاديّاً في أيّ بلد من بلدان العالم. لكنّه في لبنان حدث يستبطن أحداثاً كثيرةً. موت يبعث موتاً ونهاية تعلن دنوّ نهايات أخرى.

تزامن، خلال الأسبوع الماضي، الإعلان عن توقّف إصدار النسخة الورقية من جريدة “نداء الوطن”، مع مرور خمسين سنةً على إصدار جريدة “السفير” التي سبقتها إلى التوقّف عن الصدور قبل أعوام. توقّف النسخة الورقية سببه ماليّ، كما أعلنت الصحيفة نفسها. الجريدة في لبنان لم تعُد مشروعاً مربحاً، أو مشروعاً يغطّي نفقاته منذ زمن بعيد.

الكثير من الصحف اللبنانية توقّفت منذ زمن عن الصدور: السفير، البلد، الأنوار، المستقبل، الحياة… واللائحة تطول. أن تقفل جريدة في لبنان أبوابها، حدث يذكّر بأحداث كثيرة سبقته أو يشي بأحداث كثيرة ستلحق به. حدث يتخطّى بدلالاته مجرّد توقّف جريدة عن الصدور.

موت يستبطن موتاً

خبر توقّف نسخة جريدة “نداء الوطن” الورقية عن الصدور، أعاد من جديد إلى الواجهة أزمة موت الصحف الورقية والصحف عموماً، والأزمات التي تتهدّدها من نقص التمويل وتراجع سوق الإعلانات وصولاً إلى تراجع أعداد القرّاء. كما أعاد طرح أزمة وطنية كبيرة وأساسية تتعلّق بدور لبنان التاريخي، لبنان الحرّيات والإبداع، لبنان المطبعة ودور النشر، لبنان الإعلام والصحف، لبنان الحبر “النور الأسود والكنز السائل”، كما وصفه أمين نخلة ذات مفكّرة ريفية. يستبطن موت الصحف والجرائد الورقية موتاً لدور لبنان التاريخي السابق الذكر. لا أحد يعرف من منهما يختفي نهائياً، أوّلاً. فمنذ زمن بعيد لم يعد لبنان واحة الحرّيات في عالم الأنظمة العسكرية العربية، ولا ملجأ المعارضين العرب الهاربين من القمع والملاحقة والاضطهاد. الأزمة، أزمة موت الصحف الورقية، أزمة عالمية لم تستثنِ كبريات الجرائد والصحف في أعتى الدول الديمقراطية في العالم. لكنّها في لبنان تتّخذ معنى أشدّ وطأةً، وبعداً مختلفاً.

الكثير من الصحف اللبنانية توقّفت منذ زمن عن الصدور: السفير، البلد، الأنوار، المستقبل، الحياة… واللائحة تطول

وطن بلا ورق

إلى توقّف الجرائد والصحف الورقية عن الصدور، إصدارات دور النشر من الكتب الورقية في تراجع مستمرّ. مقولة مصر تكتب، بيروت تطبع، وبغداد تقرأ، صارت مقولة لزمن مضى وأوغل في الابتعاد. فلا مصر عادت تكتب كما في القرن السابق، ولا بغداد عادت تقرأ بعدما سيطر عليها الفكر الواحد واللون الواحد وبعد سيطرة الميليشيات الموحّدة عليها، وأمّا بيروت فمدينة تكاد تغمرها مياه البحر الأبيض المتوسط حتى لم يعُد يبدو منها سوى أطلال صحف ودور نشر ومسارح ودور سينما ومراكز ومنتديات ثقافية ومقاهٍ كان يهاجمها الرؤساء العرب، وتتنصّت على روّادها أجهزة المخابرات العربية. في إحدى خطبه، هاجم الرئيس والزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر “الذين يقضون الليالي الحمراء في مقهى الدولتشي فيتا”. وكانت الجرائد والمجلّات اللبنانية ممنوعة من دخول غالبية الدول العربية، وكان من يحملها فيها مطلوباً وغير مرغوب فيه.

الصحف

الأزمة في جزء كبير منها لها علاقة وثيقة بموت الورق. في عالم الإنترنت والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، اختفى الورق تماماً. حتى الكتابة بالقلم على الورق تكاد تكون عادةً عفّى عليها الزمن. أجيال الورقة والقلم، أهل الحبر والجريدة الورقية، لم يورّثوا علاقتهم الخاصة مع الورق والجرائد. مضوا ومضت عاداتهم وعلاقاتهم معهم. الزمن لم يعد زمنهم. هو زمن الشاشات والأزرار. تتجوّل في بيروت كلّها وبالكاد تصادف بائع جرائد واحداً بعدما كانت مفترقات الطرق والأرصفة تعجّ بباعة الجرائد وبجرائدهم. من يحمل جريدةً في عصر الهواتف الذكية؟ من يحمل كتاباً في زمن الآيباد واللابتوب؟ ومن يقرأ أساساً في زمن البودكاست والكتب المسموعة والأخبار المرويّة والمصوّرة؟

من يموّل صحيفةً اليوم؟

للأزمة أيضاً علاقة وثيقة بتراجع سوق الإعلانات وبتراجع التمويل السياسي للصحف. لم تعد الأحزاب والدول تهتمّ بتمويل الصحف لتنشر أفكارها ووجهات نظرها أو لتدافع عنها وتروّج لها. لماذا تدفع وقد صارت لها وسائلها الخاصّة وإعلامها الخاصّ. صارت ترسل أخبارها الرسمية و”الموثوقة” و”الصادقة” إلى عناوين أهلها ومناصريها ومؤيّديها الرقمية والإلكترونية. صارت توجّههم وتثقّفهم و”ترشدهم” بكبسة زرّ!

كلّما أغلقت صحيفة في لبنان راح شيء من لبنان معها. وكذلك الأمر كلّما أُقفل مسرح أو سقط منبر أو توقّفت دار نشر عن الطباعة

من يموّل صحيفةً اليوم؟ أيّ حزب من الأحزاب القائمة اليوم يهتمّ بتوسيع دائرة انتشاره وعدد محازبيه. المحازبون في لبنان معروفون منذ لحظة تكوّنهم في الأرحام. الطوائف مغلقة والأحزاب مرسّمة حدودها… في الأرحام. حتى إنّ قرّاء الصحف أنفسهم صاروا معروفين، وهم بغالبيّتهم من بيئة الصحيفة نفسها أو من بيئة مموّلها.

طبعاً تتحمّل الصحف نفسها جزءاً من المسؤولية عن الأزمة. لم تعد تجذب القرّاء أو تمدّ المهتمّين بالشأن العامّ بجديد. ولم تعد عناوينها ومانشيتاتها تهزّ عروشاً. لم يعد مضمونها يصنع سياسات. منذ زمن بعيد لم تعد الصحف تصنع رأياً عامّاً. الزمن الذي كانت فيه الصحف تساهم في إطلاق التظاهرات والإضرابات وتسقط حكومات وتزكّي شخصيات، مضى وانتهى. لم يعد للصحف تأثيرها السابق حتى عند أهل الإعلام أنفسهم. صارت مجرّد ناقل للخبر. وسائل التواصل الاجتماعي أسرع في نقل الأخبار.

كلّما أغلقت صحيفة في لبنان راح شيء من لبنان معها. وكذلك الأمر كلّما أُقفل مسرح أو سقط منبر أو توقّفت دار نشر عن الطباعة.

إقرأ أيضاً: وطن الأزمات حدّق: أتذكر دولةً كانت هنا؟

لبنان الحوار وملتقى الحضارات والثقافات انتهى. لم يعد اللبنانيون يتحاورون عبر جرائدهم ومنابرهم. كذلك الأحزاب وأصحاب الفكر. الحوار صار بالرصاص وبالحروب هنا وهناك. الحوار صار من خلف المتاريس والحدود “الوجودية” المحلّية. لبنان يتلاشى رويداً رويداً، وجريدةً جريدةً. يسقط ورقةً ورقةً. ملامحه تختفي كلّما اختفى منبر كان صوتاً لوجهة نظر ما، أو لرأي ما، سواء اختلفنا معه أم اتّفقنا.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

إقرأ أيضاً

عدوان 7 أيّار.. حان وقت العودة من الدّوحة

بعد أحداث 7 أيار 2008 بأسبوع واحد، شهدت منطقة المصيطبة في بيروت حراكاً مكثّفاً من قبل حركة أمل باتّجاه أهل المنطقة السُّنّة، وذلك بهدف معالجة…

غزّة تشطر تركيا إلى شطرين

تأخّر رجب طيب إردوغان ستّة أشهر قبل أن يحسم رأيه في قضية غزة. حدث “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأحدث معه الارتباك الإردوغانيّ…

“منظومة الانتهاك”

لا عُذر لمن فوجئ. أين المفاجأة؟ 1 + 1 = 2. معادلة بسيطة. كلّ ما نعيشه منذ 20 عاماً في هذا البلد لا بدّ أن…

القطار الصّينيّ السريع يخترق أوروبا من شرقها

حطّت طائرة الرئيس الصيني شي جينبينغ في صربيا بتوقيت لا يخلو من الرمزية. ففي مثل هذا التاريخ قبل 25 سنة قصفت الطائرات الأميركية السفارة الصينية…