“إنفيديا” تقاتل على أسخن جبهات التفوّق الأميركيّ

2024-03-20

“إنفيديا” تقاتل على أسخن جبهات التفوّق الأميركيّ

مدة القراءة 6 د.

يُختزل التفوّق الأميركي في كلّ عصر بأسماء حفنة من الشركات العملاقة التي تنجز فتحاً جديداً في مجالاتها. من “إكسون موبيل” و”جنرال موتورز” وIBM في الثمانينيات إلى “مايكروسوفت” في التسعينيات، إلى “أبل” و”غوغل” و”أمازون” و”فيسبوك” في فجر الألفية. يبدو أنّ أسواق المال انتخبت “إنفيديا” لتحمل على عاتقها التفوّق الأميركي في عصر الذكاء الصناعي.

قبل يومين، احتشد 11 ألف شخص في قاعة رياضية كبيرة في سان جوزيه الأميركية لحضور مؤتمر “إنفيديا” السنوي. الذي كشفت فيه الشركة عن رُقاقة إلكترونية جديدة تستخدم في تطبيقات الذكاء الصناعي، تحمل اسم “B200”. في مقاعد الحضور مسؤولون كبار من الشركات التي تخطف العناوين في الولايات المتحدة هذه الأيام، مثل “ميتا” المالكة لـ “فيسبوك”، و”غوغل” و”مايكروسوفت” وشركة الذكاء الصناعي OpenAI وغيرها. وكلّ هذه الشركات تستخدم رقائق “إنفيديا” في منتجاتها.

مثل هذه الحشود اشتهرت بها “أبل” في العقد الماضي حين بدأت تقليد إقامة الاحتفالات الجماهيرية لإطلاق هواتفها الجديدة. وفي ذلك حين، قلّما كان الناس العاديّون يعرفون أسماء الرقائق الإلكترونية وخصائصها وقدراتها. ولذلك الاهتمام الذي أُحيطت به الرقاقة الجديدة يعكس مدى التعويل على الذكاء الصناعي في تغيير حياة الناس وصناعة موازين التفوّق. وكما كانت “أبل” نجمة العقد الماضي، فإنّ “إنفيديا” تصعد بسرعة صاروخية في سلّم اهتمامات المستثمرين في أسواق المال. إذ إنّ سهمها قفز بأكثر من 80% منذ بداية العام، لتتجاوز قيمتها السوقية 2.2 تريليون دولار. ولتصبح ثالث أعلى الشركات قيمة في العالم بعد “أبل” و”مايكروسوفت”.

الرقاقة المتفوّقة

رقاقة “إنفيديا” الجديدة تفوق بمرّتين ونصف المرّة قدرة الرقاقة الأشهر حالياً المعروفة باسم H100. وهي الأشهر حالياً في مجال “تعليم الآلات” الذي تقوم عليه ثورة الذكاء الصناعي التوليدي. ومن المتوقّع أن تضع البشرية على أعتاب عصر جديد في صناعة الآلات القابلة للتدريب على مهمّات لم يكن من المتصوّر أن يفهمها ويحلّلها سوى عقل الإنسان.

رقاقة “إنفيديا” الجديدة تفوق بمرّتين ونصف المرّة قدرة الرقاقة الأشهر حالياً المعروفة باسم H100

قد يعتبر الأميركيون إطلاق الرقاقة الجديدة لحظة فارقة، لأنّه يأتي في سياقٍ الحرب التكنولوجية مع الصين، التي ربّما تحسم موازين التفوّق لعقود مقبلة. فإدارة الرئيس جو بايدن ألقت بكلّ ثقلها لإقرار “قانون الرقائق والعلوم” في 2022، الذي رصد 280 مليار دولار لإيقاف المسار الانحداري للولايات المتحدة في صناعة التكنولوجيا منذ التسعينيات. يكفي أنّ حصّة الولايات المتحدة من صناعة أشباه الموصّلات (semiconductors) انخفضت من 37% في 1990 إلى 10% في 2022. ولذلك أتى هذا القانون ليوفّر دعماً حكومياً سخيّاً لإعادة توطين صناعة الرقائق وأشباه الموصّلات. التي تشكّل عصب الثورة الصناعية الرابعة القائمة على الذكاء الصناعي.

 

في هذا الميدان تتنافس القوى الاقتصادية الكبرى كلّها. فالاتحاد الأوروبي أقرّ مبادرة ترصد 43 مليار يورو من الاستثمارات العامّة والخاصّة لتوطين صناعة الرقائق. بهدف مضاعفة حصّة دول الاتحاد من 10% إلى 20% من الصناعة عالمياً بحلول عام 2030. وثمّة برامج مشابهة في اليابان والهند والصين.

إنفيديا

لكنّ التفوّق الأميركي ما زال واقعاً وحقيقة. فالصعود الصيني الاقتصادي كقوّة اقتصادية عالمية ما زال يرتكز على التكنولوجيا الأميركية. إذ إنّ أكثر من 90% من الرقائق المستخدمة في الصناعات الصينية مصمّمة من قبل شركات أميركية، حتى لو لم تكن مصنوعة في أميركا. ويكفي على سبيل المثال أنّ شركة BYD الصينية التي باتت أكبر صانع للسيارات الكهربائية في العالم، متفوّقة على “تسلا” الأميركية، تستخدم الرقائق التي تصمّمها “إنفيديا” وتصنّعها، في الغالب، شركات تايوانية. وهنا يتّضح مدى تعقيد شبكات الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين.

من المتوقّع أن تضع البشرية على أعتاب عصر جديد في صناعة الآلات القابلة للتدريب على مهمّات لم يكن من المتصوّر أن يفهمها ويحلّلها سوى عقل الإنسان

“هواوي” والقصّة الكاملة

ربّما قصّة العقوبات الأميركية على شركة “هواوي” تختزل كلّ ما في هذا الصراع التكنولوجي. فقد كان الاعتقاد سائداً بأنّ حرمان الشركة الصينية من الرقائق الأميركية، تصميماً أو تصنيعاً، سيؤدّي إلى اختفاء الهواتف الصينية الأشهر من الأسواق. إلا أنّ المفاجأة أتت بعد ثلاث سنوات حين أنتجت “هواوي” هاتفاً برقاقة صنعتها شركة SMIC الصينية وتحمل اسم Kirin 9000S. وميزتها أنّها وفّرت أوّل بديل تقنيّ عن التكنولوجيا الأميركية المحظورة بموجب العقوبات. وهو ما مكّن “هواوي” من العودة بمنتجاتها إلى الأسواق. بل إنّها تحوّلت بعد ذلك إلى منافس جدّي لـ “إنفيديا” في صناعة الرقائق.

لا تختلف سياسة بايدن عن سياسة منافسه الجمهوري دونالد ترامب في التصميم على خوض الحرب التكنولوجية حتى النهاية. في تشرين الأول من 2022 أصدرت وزارة التجارة الأميركية وثيقة من 139 بنداً تتضمّن مراجعة لسياسة تصدير الرقائق إلى الصين. مضيفة الكثير من القيود والاعتبارات الأمنيّة التي تحول دون تزويد الشركات الصينية بالتكنولوجيا الأميركية. وبعدها خرج وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ليقول بصراحة إنّ المنافسة التكنولوجيّة هي قلب المواجهة الجديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة.

قبل يومين، احتشد 11 ألف شخص في قاعة رياضية كبيرة في سان جوزيه الأميركية لحضور مؤتمر “إنفيديا” السنوي

قبل ذلك، كان ملفّ “النقل القسري للتكنولوجيا” على رأس ملفّات “الحرب التجارية” في عهد ترامب. إذ كانت بكين تلزم الشركات الأميركية المتعطّشة لدخول السوق الصينية بنقل الجزء الأكبر من سلسلة إنتاجها إلى داخل حدودها، لتهيمن على المعرفة التكنولوجية تدريجياً.

منذ إقرار قانون “الرقائق والعلوم” الأميركي عام 2022، أخذ التنافس في تطوير الرقائق مكانة متقدّمة في الصراع الدولي. لأنّ من يهيمن عليها بإمكانه أن يمتلك مفاتيح التفوّق في التصنيع العسكري وأنظمة الأمن والاستخبارات. علاوة على الإمساك بعصب الصناعات الحرجة.

إقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي: الإنسان “عبد” للتقنيّات؟

قام التفوّق الاقتصادي الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية على ثلاث ركائز: القوّة العسكرية والطفرة الصناعية وعولمة الدولار. وإذا كانت القوّة العسكرية في القرن الماضي قد ارتكزت على التفوّق الصناعي. فإنّ الجيل الجديد من الجيوش يرتكز على أسلحة ذكيّة تخوض المعركة بأقلّ قدر من المقاتلين في الميدان. ومن يتفوّق في هذا المجال قد يحسم سباق التفوّق لعقود مقبلة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

إقرأ أيضاً

التصعيد ضدّ أذرع إيران… تقابله مرونة لإنقاذ رفح؟

تسابق الضغوط من أجل إحياء مفاوضات الهدنة في غزة قرار الحكومة الإسرائيلية اقتحام رفح. يترافق ذلك مع رصد جدّية الليونة التي أبدتها قيادة “حماس” الداخل…

تفشّي وباء الصراعات.. هل يشعل حرباً عالميّة؟

العالم ليس بخير. مشهد العلاقات الدولية في ظلّ الحروب الصغيرة المتنقّلة هنا وهناك والصراع على النفوذ والتناحرات الإقليمية أشدّ تعقيداً ممّا كانت عليه الصورة عشيّة…

قادة غزّة: أزمة مكان أم خيارات؟

كثر الحديث “غير الموثّق بأدلّة رسمية” عن أنّ قطر بصدد الاعتذار عن عدم مواصلة استضافة قيادة حماس، حيث كانت ولا تزال حتى الآن المكان الأكثر…

العلم الفلسطيني: سرقته إيران.. أم ألقته “الدولة الوطنية” (2/2)

ولادة “الدولة” في المنطقة العربية مرّ بـ”قطوع” التفتيت والتقسيم وفق خريطة “سايكس – بيكو” التي قسمت بلادنا دولاً بين الانتدابين، فرنسا وبريطانيا. لكنّها وُلِدَت بلا…