إيران: من العصيان إلى الثورة

2022-12-16

إيران: من العصيان إلى الثورة

تتحول حركة الاحتجاج في إيران إلى نوع من العصيان المدني جراء “وحشية النظام” وأدواته القمعية. وبعدما كانت المطالبات تحت شعار حرية الجسد اثر مقتل الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق بدعوى “ملابسها”، صارت الاحتجاجات تحت عنوان إسقاط نظام الملالي نفسه. وأوضح صورة عن طبيعة ما يجري عكسها عالم الاجتماع الإيراني فرهاد خسروخافار(*) في صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية بعنوان “من العصيان إلى الثورة”.

“هناك خطوة واحدة فقط ونشهد نهاية نظام سلطة الموت في إيران، حيث لا مجال لحلٍّ وسطٍ بين المتظاهرين والنظام الثيوقراطي الذي ليست لديه أيّ رسالة أمل للشباب، وبات يستنسخ النموذج السوري إمعاناً في قمعهم…”. هذا ما كتبه خسروخافار في صحيفة “ليبراسيون”، إذ اعتبر أن المتظاهرين الذين يتدفّقون إلى الشوارع في إيران “يطالبون بإنهاء نظام الملالي. لأنّ العيش في مجتمع بلا حاضر ولا مستقبل يجعل الشارع هو المكان الوحيد لتعبير الشباب وكبار السنّ عن مظالمهم على حدّ سواء”.

 

فئات المحتجين الثلاث

بنى خسروخافار اعتقاده هذا على ازدياد وعي الشباب الإيراني وعدم تراجعهم أمام رصاص قوات الأمن، واستمرار حركة تمرّدهم ضدّ النظام، على الرغم من افتقادها هيكلية أو قيادة سياسية. و”لم تعد هناك إمكانية للحوار أو التسوية بين الحكومة والشعب” بحسبه. فـ”الحكومة الإسلامية دمّرت فئات المجتمع المدني الوسطى، ولا تعرف من تلجأ إليه بسبب تشدّدها وتواصل إدارتها القاتلة للاحتجاجات. وتعتقد أنّ أيّ حلّ وسط من جانبها يعتبره المجتمع المحتجّ علامة على ضعفها، ويؤدّي إلى المزيد من التطرّف في الاحتجاجات والمطالب”.

تتحول حركة الاحتجاج في إيران إلى نوع من العصيان المدني جراء “وحشية النظام” وأدواته القمعية

وميّز خسروخافار في مقاله ثلاث فترات لهذه الاحتجاجات:

الأولى، تميّزت باقتحام المرأة المساحة الاجتماعية وإطلاقها الاحتجاج تحت شعار “امرأة، حياة، حرّيّة”. وكان التطوّر المهمّ أن التحق بهنّ الرجال وهم في الغالب من الشباب.

الثانية، تميّزت بشعار “الموت للديكتاتور”، وشارك فيها الكثير من النساء والرجال والشباب، وللمرّة الأولى من الصغار جداً (بين 12 و17 عاماً). وهم تلامذة وطلبة مدارس رفعوا أيديهم عالياً في محافظتين ومن عرقيّتين: كردستان الإيرانية (غرب إيران) وبلوشستان (جنوب شرق البلاد). هكذا صارت كلّ الأعمار في التظاهرات وفي وتيرة مستمرّة. وكان ردّ فعل السكان في كلّ مكان من البلاد الاتّحاد مع الأقلّيّات العرقية في مواجهة عنف السلطة. وبرز الشعار: “زاهدان، سنندج، قرّة عين إيران”، أو “معاً نستعيد إيران من يد الثيوقراطية (حكم رجال الدين)”.

الثالثة، بدأت أخيراً واتّسمت بتطوّر مهمّ: إغلاق البازار الذي له أهمية رمزية أساسية، بسبب دوره في الحركات الإيرانية في الماضي (سواء في حركة مصدّق عام 1950 أو في ثورة 1979). وقبل هذه المرحلة كان شباب الجيل الثالث بعد الثورة هم الذين احتجّوا. فانضم إليهم العمّال (الجيل الثاني) وتجار البازار (الجيلان الثاني والأوّل). وهم لا يندّدون بتعطيل الاقتصاد فقط، بل وبتسييس السخط الاجتماعي.

في هذه التطوّرات باتت السياسة تُمارَس مباشرة في شارع غاضب لا تستطيع السلطة الثيوقراطية، التي تحوّلت إلى هيئة ثاناتوقراطية (حكم قوّة الموت) ، أن تروِّضه على الرغم من عنفها القاتل وتدميرها أماكن الحياة وإطلاق الذخيرة الحيّة، إضافة إلى أعمال القتل التي يرتكبها راكبو الدرّاجات النارية من الباسيج (منظّمات مكافحة الشغب) الذين يندفعون نحو المتظاهرين مطلقين النار عليهم وأحياناً يسحقونهم تحت عجلات دراجاتهم. حتى الأطفال ليسوا بمنأى عن ذلك، وكذلك المجموعات العرقية الإيرانية من الأكراد والبلوش، وهم من السُنّة والفئة الأكثر استهدافاً.

 

السيناريو السوريّ

يرى علم الاجتماع الإيراني خسروخافار أنّ النظام يعتمد السيناريو السوري: إطلاقه الإسلاميين المتطرّفين وتسليحهم وتضخيم أفعالهم بشكل مصطنع، ونشر أخبار كاذبة لتهديد المجتمع وجعل السكان يخشون تقطيع أوصال إيران من قبل مجموعاتها العرقية في غياب قوّة قاهرة.

وأصبح كذب السلطة، الذي أرساه مبدأً للتواصل، سمةَ التلفزيون الإيراني والصحافة الرسمية. وبات شائعاً قطع الإنترنت، وعرض اعترافات المعتقلين تحت التعذيب المفترض أنّهم “تائبون”. واعتبار التظاهرات مكائد ترتبها الولايات المتحدة وإسرائيل. لكنّ حركة التمرّد مستمرّة رغم “القمع الأسود”، لأنّ العيش في مجتمع بلا حاضر ولا مستقبل، والقضاء على كلّ معارضة قانونية خجولة، يجعلان الشارع المكان الوحيد للتعبير عن المظالم.

يرى علم الاجتماع الإيراني خسروخافار أنّ النظام يعتمد السيناريو السوري: إطلاقه الإسلاميين المتطرّفين وتسليحهم وتضخيم أفعالهم بشكل مصطنع، ونشر أخبار كاذبة لتهديد المجتمع

تدمير الحياة

وفقاً لخسروخافار، تمثّل حركة الاحتجاج طابعاً جديداً بمرونتها، رغم أنها بلا قيادة ولا تنظيم. لكنّ غياب أيّ “محاور” يمكن أن يجعل الحوار مستحيلاً. فالسلطة لا تعرف من تلجأ إليه، فتواصل أعمال الترهيب وإدارتها القاتلة للاحتجاجات. لذا ليس من مجال لحلٍّ وسطٍ بين المتظاهرين والنظام الثيوقراطي. المطالب أصبحت راديكالية.

تُضاف إلى ذلك حقيقة خاصة بالدولة الإيرانية: لا يرى الشباب أنّها فاسدة حتى النخاع فحسب، بل هي ضدّ بهجة الحياة، وتتبنّى رؤية متحجّرة لإسلام من عصر آخر لتفرض قيوداً تعتبرها الأجيال الجديدة عبثية. وليس لدى هذا النظام أيّ رسالة أمل للشباب. بل يستمرّ في تدمير حياتهم، بأدائه يقمع كلّ مظهر ابتهاج شعبي (مباريات كرة القدم مثلاً). وسوء فهم تجربة الشباب الذين يرغبون في الاحتفال بالحياة، يرفع حاجزاً بين القوّة الفاسدة والمجتمع المتلهّف للحياة.

وكتب خسروخافار: “عام 2009 قُضي تماماً على الإصلاحيين، الذين كان يُنظر إليهم كبديل خجول ومعقول للحكم الديني المتشدّد، حين فاز في انتخابات رئاسية مزوّرة الشعبوي محمود أحمدي نجاد بدعم نشط من جيش الحرس الثوري والمرشد الأعلى. لذا رفع الشباب آنذاك شعار: “أين صوتي؟”. وتدفّقت الاحتجاجات في سلسلة متعاقبة في أعوام 2015 و2016 و2018 و2019 و2021. وفي كلّ مرّة قمع المحتجون بقسوة” (خلّفت احتجاجات عام 2015 أكثر من 300 قتيل، وأدّت تلك التي وقعت في 2018 و2019 إلى سقوط 1,500 قتيل…).

إقرأ أيضاً: فلسطين: بوتين وخامنئي شريكان طبيعيان في سوريا وأوكرانيا؟

منذ ذاك الحين سُدّت سبل الحوار والتسوية، وانقلب قمع النظام على نفسه، مثل ثعبان يقضم ذيله. كلّما زاد قمعه، زاد تمرّد المجتمع، فأصبحت التسوية مع قوّة مكروهة أمراً بعيد الاحتمال. والنظام يستلهم من النموذج السوري أساليب قمعه، معتقداً بإمكان تطبيقها على المجتمع الإيراني مع مراعاة اختلاف الحال بين البلدين. لكنّ قوى القمع تُظهر تدريجياً علامات الاستنزاف. و”إذا استمرّت التظاهرات لبضعة أسابيع أخرى فستكون نهاية نظام الثاناتوقراطية، نظام ديكتاتورية الفقهاء المميتة في إيران.. إنّها خطوة واحدة فقط”.

*فرهاد خسروخافار‎ باحث فرنسي إيراني متخصّص في علم الاجتماع. يشغل منصب مدير الدراسات بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية في باريس. يهتمّ بشؤون إيران المعاصرة وبالإسلام في أوروبا وفي الشرق الأوسط. من مؤلّفاته: “الجهاد الجديد في الغرب” (2018)، “إسلام السجون”، و”إيران: كيف الخروج من الثورة الدينيّة”، و”الإناسة في إيران”.

  

 لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

فريدمان: نتنياهو.. زعيم صغير في عصر عظيم؟

الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان مقالة يصف فيها اللحظة الحاليّة بأنّها حاسمة، إذ ستكشف ما “إذا كان نتنياهو الذي قدّم باستمرار مصالحه الشخصية على…

درعا تنتفض والأسد ينهار؟

بعد سنوات من النهاية المفترضة للحرب الأهلية في البلاد، بدأت سيطرة الأسد تتفكّك مرّة أخرى، إذ طفح الكيل بشعب جنوب سوريا، ويبدو أنّ الأزمة تتطوّر…

عندما ابتسمت ميلاني ترامب

“في ميلووكي في الليلة الأخيرة من المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، اختارت ميلاني ترامب السيّدة الأولى السابقة عدم التحدّث. ارتدت بدلة حمراء زاهية من ديور، مصمّمة…

فريدمان: بايدن وترامب “روليت روسية بمسدّس محشوّ بالكامل”

في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان أنّ “المرشّحَين حاليّاً للرئاسة الأميركية جو بايدن ودونالد ترامب غير مؤهّلَين لهذا المنصب: فالأوّل رجل طيّب يعاني…