قمّة المناخ: دجل الأغنياء وتمرّد الفقراء

مدة القراءة 7 د

قد تكون قضية التغيّر المناخي الأكثر خطورة على المستوى الجيوسياسي والإنساني ومصير كوكب الأرض. إلا أنّ مقاربة الدول الصناعية لها قد تكون الأكثر دجلاً وديماغوجية. هذا ما يتجلّى بأبشع صوره في مؤتمرات قمّة المناخ منذ انعقاد الدورة الأولى في برلين في عام 1995، حتى الدورة الأخيرة “كوب 27” المنعقدة حالياً في شرم الشيخ بمصر (من 6 إلى 18 تشرين الثاني الجاري).

 

بين المناخ والاقتصاد

مارست الدول الكبرى على مدى 26 دورة من مؤتمرات المناخ كلّ أنواع المناورات ورسم السياسات وتوقيع الاتفاقيات وإعلان الالتزامات والتعهّدات، لكن بلا جدّية في التنفيذ. السبب هو أنّ الالتزام بالمعايير المناخية والبيئية سيكون على حساب المصالح الاقتصادية. فخفض انبعاثات الغازات الأربعة الرئيسية المسبّبة للاحتباس الحراري، وفي مقدَّمها الكربون والميثان الناجمان عن الوقود الأحفوري الرخيص، يعني تقلّص الأنشطة الاقتصادية وتراجع النموّ والاضطرار إلى استخدام مصادر الطاقة المتجدّدة الأكثر تكلفة والتي يتطلّب تطويرها استثمارات بتريليونات الدولارات. ويعني أيضاً ضرورة ضخّ مئات مليارات الدولارات لمساعدة الدول النامية على الالتزام بالمعايير المناخية. لذلك سعت الدول الصناعية إلى تقاذف مسؤوليّة كارثة التغيّر المناخي، وإلى أن تعتبر كلّ دولة الاتفاقيات الدولية مجرّد فرصة لتعزيز قدراتها التنافسية في مواجهة الدول الأخرى.

مارست الدول الكبرى على مدى 26 دورة من مؤتمرات المناخ كلّ أنواع المناورات ورسم السياسات وتوقيع الاتفاقيات وإعلان الالتزامات والتعهّدات، لكن بلا جدّية في التنفيذ

سلسلة اتفاقات وانسحابات

ما يحدث من مناورات في مؤتمر “كوب 27” للتملّص من الالتزامات والالتفاف على الاتفاقيات، ليس سوى تكرار مملّ:

– في 1997 وقّعت اتفاقية “كيوتو” الشهيرة. كانت الخطوة التنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن التغيّر المناخي الموقّعة في عام 1992 في ريو دي جانيرو بالبرازيل خلال المؤتمر المعروف باسم “قمّة الأرض”. حينذاك شكّلت الاتفاقية نصراً مبيناً للصين وروسيا والهند، لأنّها نصّت على فترة سماح لها. وهذا ما دفع إدارة جورج بوش إلى الانسحاب منها في عام 2001، لأنّها “لا تحقّق مصالح أميركا الاقتصادية”.

– في 2015 وصلنا إلى الاتفاقية الثانية الأكثر شهرة وأهميّة، اتفاقية باريس الموقّعة خلال مؤتمر “كوب 21”. مع أنّها، كما وصفها لوران فابيوس الذي قدّم مشروعها النهائي للمؤتمر، “دائمة ومتوازنة وملزمة قانونياً لكلّ الدول”، لكن لم تلتزم بها كلّ الدول، خصوصاً أميركا. إذ أعلن الرئيس دونالد ترامب انسحاب بلاده منها في 1 حزيران 2017، لأنّها “غير متوازنة ولا تحقّق مصالح أميركا”. ثمّ أعلن الرئيس بايدن العودة إليها لا لتنفيذها، بل لامتصاص النقمة والدخول في حلقة جديدة من المراوغة.

في سبيل تبيان حجم المراوغة، فلنتذكّر أنّ القضايا المطروحة على جدول أعمال مؤتمر “كوب 27” هي القضايا ذاتها التي تُطرح بالنصّ الحرفيّ عينه أحياناً منذ المؤتمر الأوّل “كوب 1” التي نصّت عليها أيضاً اتفاقيّتا كيوتو وباريس. وتتلخّص في قضيّتين:

الأولى: تحديد مسؤولية الدول عن التسبّب في مشكلة الاحتباس الحراري، والتزامها خفض الانبعاثات بنسب محدّدة سنوياً وصولاً إلى الصافي الصفريّ.

والثانية: عدالة توزيع التبعات وتوفير التمويل اللازم للدول النامية للتكيّف مع متطلّبات مكافحة التغيّر المناخي. وهو ما اصطُلح على تسميته آليّة الخسائر والأضرار.

يبقى التغيّر المناخي القضية الأكثر خطورة على مصير البشرية والكوكب، التي يستحيل التصدّي لها بالمناورات والتنصّل من الالتزامات

التمويل و”الأضرار والخسائر”

تهيمن قضية التمويل على “مناخ شرم الشيخ”، ويهدّد الخلاف الحادّ بين الدول الفقيرة والغنية ليس بفشل القمّة وحسب، بل وبتعطيل جهود مكافحة التغيّر المناخي، إذ تصرّ الدول النامية على التوصّل إلى نتائج ملموسة تتمثّل بالتزام نهائي من قبل البلدان الغنية بتحمّل تكلفة “الخسائر والأضرار”، على أن تتمّ ترجمة هذا الالتزام بإنشاء صندوق خاصّ يُموَّل من قبل الدول الغنيّة لتقديم مساعدات ومنح عادلة للبلدان النامية. ولا تزال الدول الغنيّة ترفض بشدّة اعتماد أيّ آليّة محدّدة للتعويضات والمساعدات، وتصرّ على الاكتفاء بإعلان التعهّدات مع السعي إلى استخدام موارد المؤسّسات الدولية مثل البنك الدولي لتقديم “ما تيسّر” من قروض ومنح، وهو ما وصفته منظّمة أوكسفام بـ”التمويلات المناخية المضلّلة”.

نجحت أميركا وشركاؤها، ومن بينهم الصين، في امتصاص غضب وتمرّد الدول النامية، خصوصاً الإفريقية منها، بإعلان موافقتها على بحث قضية “الخسائر والأضرار”. وقد تمّ إدراج هذه القضية على جدول أعمال مؤتمر “كوب 27” بناء على اقتراح قدّمته مصر، علماً أنّ هذه القضية كانت موضع اتفاق بالإجماع في “اتفاقية كيوتو”، وليست مجرّد موضوع للبحث.

يجدر التنبّه هنا إلى أنّ الاتفاق على آليّة للتعويض والتمويل لن يضمن أبداً توفير الأموال. وخير دليل على ذلك هو مبلغ الـ100 مليار دولار سنوياً، الذي تحوّل إلى ما يشبه “النكتة السمجة”. فهذا المبلغ التزمت به الدول المتقدّمة في اجتماع كوبنهاغن في عام 2009 ولم يتمّ الوفاء به. ثمّ عادت إلى الالتزام به في “اتفاقية باريس” في عام 2015 ولمدّة خمس سنوات. ولكنّ ما تمّ جمعه فعليّاً لم يتجاوز 83.3 مليار دولار من أصل 500 مليار دولار. ولمزيد من التوضيح نشير إلى أنّ هذه الدول “المتقدّمة جدّاً” أعلنت في مؤتمر “كوب 26” مبادرةً خاصّة “بالخسائر والأضرار” لمدّة ثلاث سنوات، فكانت النتيجة تعهّدات بمبلغ 2 مليون جنيه استرليني ومليون يورو من اسكتلندا وبلجيكا، إضافة إلى 13 مليون دولار من الدنمارك، في حين تُقدَّر الاحتياجات السنوية لتمويل المناخ بأكثر من 5 تريليونات في السنوات العشر المقبلة، وهو ما يستدعي تطوير طرق مبتكرة لجمع التمويل الحكومي إلى جانب الاستثمارات الخاصة وتطوير وحوكمة آليّة أسواق الكربون، الخ..

على الرغم من كلّ ما سلف يريدون إقناع الدول النامية بأنّهم جادّون في توفير التمويل لها للتكيّف وتحقيق التوازن بين إزالة الكربون من اقتصاداتها وتوفير التنمية الاقتصادية المستدامة لشعوبها.

 

الالتزام بخفض الانبعاثات

التزمت الدول بالوصول إلى “صفر انبعاثات” بحلول عام 2050، بهدف الحفاظ على زيادة حرارة الأرض بواقع 1.5 درجة مئوية على مستوياتها قبيل الثورة الصناعية الأولى. وقدّمت من أجل ذلك خططاً وطنية تتضمّن التزامات سنوية بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وفق نسب محدّدة. والطريف أنّه إذا ما تمّ تنفيذ جميع هذه الالتزامات، يمكن أن نصل إلى 1.8 درجة مئوية بحلول نهاية القرن حسب وكالة الطاقة الدولية.

إقرأ أيضاً: الرئيس اللبنانيّ… و”تغيير المناخ” مع إسرائيل

لكنّ ما حدث هو العكس تماماً، إذ أعلنت الأمم المتحدة في أحدث تقويم لتنفيذ الالتزامات الوطنية أنّه اعتباراً من أواخر أيلول 2022 حتّى عام 2030، ستكون هناك زيادة في الانبعاثات بنسبة 10.6 في المئة، بدل من الانخفاض بنسبة الـ45 في المئة المطلوبة لتحقيق مسار الـ1.5 درجة مئوية. ورجّحت حدوث ما سمّته “ارتفاعاً كارثيّاً” في درجات الحرارة بمقدار 2.5 درجة مئوية بحلول نهاية القرن. أمّا الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيّر المناخ، فأعلنت قبيل مؤتمر “كوب 27” أنّ انبعاثات غازات الدفيئة الرئيسية الثلاثة (ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز) وصلت في الغلاف الجوي إلى مستويات قياسية في نهاية عام 2021.

هكذا يبقى التغيّر المناخي القضية الأكثر خطورة على مصير البشرية والكوكب، التي يستحيل التصدّي لها بالمناورات والتنصّل من الالتزامات.

مواضيع ذات صلة

سرّ اجتماع غازي عنتاب الذي “أسقط” الأسد

حملت الساعات الأخيرة التي سبقت سقوط النّظام السّوريّ السّابق ورئيسه بشّار الأسد اجتماعات علنيّة وسرّيّة لمناقشة مرحلة ما بعد الأسد. أبرزها اجتماع شهدته مدينة غازي…

اسقاط بشّار… ماذا عن “الحزب”؟

ما وَصَفه رئيس مجلس النواب نبيه بري بـ “الخطير جدّاً” حيال ما يحدث في سوريا، وبأنّه “مؤامرة متورّطة فيها قوى كبرى”، تعاطت معه معظم القوى…

نصيحة “جمهوريّة” لعين التّينة: رئيس بـ86 صوتاً… أو التّأجيل

لا تختلف الإدارتان، الديمقراطية والجمهورية، في مقاربتهما لمسار الحلّ في المنطقة. الفارق الوحيد بينهما هو الأسلوب. فبينما اعتمد الرئيس جو بايدن سياسة الجزرة ثمّ العصا…

البركان السّوريّ يُربِك الحكومة وتخوُّف من دورٍ لـ”الحزب”

مع عقد الاجتماع الرسمي التقنيّ الأوّل يوم الثلاثاء للجنة الإشراف على تطبيق وقف إطلاق النار يدخل جنوب الليطاني، ومعه شمال الليطاني وصولاً إلى الحدود الشرقية…