قال الشاب: ما رأيك يا دكتور في الجدال الدائر في السوشيال ميديا حول مسلسل “بطلوع الروح” ومسلسلات أخرى تناقش الثوابت في الدين، وهل من حق المفكرين والمؤلفين فتح أبواب نقاش قد تؤدى إلى الشك ثم الإلحاد؟.
قالت زميلته: سؤالك يا زميلى يخلط بين حرية التعبير وبين ما يظن الناس أنه ثوابت.. فما هي هذه الثوابت؟.
قال شاب ثالث: كما علمتنا يا دكتور، فلا بد من تعريف الأمور والكلمات قبل الخلاف عليها وحولها، فإن لم يكن في أذهاننا نفس التعريف على كلمة ما، فالخلاف سيكون غير مجد والحوار سيكون حوار طرشان كما يقول المثل.
قلت: تعالوا نُعرف الكلمات ثم نتحاور حول السؤال وحول المسلسل الذي أثار غضب البعض وإعجاب البعض الآخر، بل إن التعليقات عليه تحتاج إلى نقاش مجتمعى.
أولا: ما هي الثوابت في الدين، وأين يكمن الخلاف؟.
البعض، وأنا منهم، يرى أن هناك ثوابت مشتركة في كل الأديان السماوية وغير السماوية. وأخص منها الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وحسن التعامل مع الآخرين، والرحمة، والمروءة، والصدق والأمانة، والعدل والإنصاف، والمحبة وفعل الخير، واحترام الوالدين وتقديمهم.
وتشترك كل الأديان في أهمية التواصل مع الخالق، بأشكال الصلاة المختلفة، لنفس الهدف، وهو تنقية النفس من الشرور، وتذكير البشر بكل ما في الكون من خير، وكل ما في داخل كل إنسان من أخلاق حميدة تبنى للإنسانية وتربط كل واحد بالخالق وبالمخلوقات.
قالت الشابة الذكية: وما قولك في ثوابت قالها العارفون بالدين في زمن غير زماننا؟، وفى اعتبار الأحاديث المنقولة عن الرسول عليه السلام، وما قاله أئمة الدين إنها ثوابت تكمل ما نزل في القرآن.
قلت: الثابت عندى أن القرآن لا يحتاج إلى تكملة، “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”. [المائدة: 3].
فليس فيما أنزل الله نقصانا يستدعى التكملة.
ولكن تفسير آياته يختلف من زمن إلى آخر، وهو ما يجعله نافعا لكل زمان، وليس من الثوابت، في اعتقادى، تفسيرات للآيات لم يكن عند مفسريها ما لدينا من علم ومعرفة، وقدرة اتسعت عبر السنين بالعلم والمعرفة والتجربة.
أما في الأحاديث عن الرسول، عليه الصلاة والسلام، فقد تداخلت في نقلها (الذى كتب بعد وفاته بقرب مائتى عام)، مآرب للبشر ومطالب للسلطة، وأنا أميل إلى تصديق فقط ما يتوافق مع النفس السوية، وما تمليه معرفتى بجمال وإنسانية سيدنا محمد، وأستبعد منها ما لا يتفق مع شخصيته أو ما في القرآن. والسنة عندى هي ما رآه ورواه من عاشوا وقت الرسالة من أفعال الرسول وليس ما نُقل عنه بعد وفاته بمئات السنين.
أما عن الأئمة والمفسرين، فشكرا لهم على مجهوداتهم في زمنها، لكننا لسنا مطالبين بتقديس ما قالوه مهما كانت حكمته، فالدين الإسلامى دين لا يعرف الكهانة، ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قُربانا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولى متسلطا أو صاحب قداسة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل، ويقضى بالنجاة أو الحرمان، ولن يتجه خطاب هذا الدين العظيم- بداهة- إلا إلى الإنسان العاقل الحر، الطليق من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم.
إن أكبر الموانع التي تُعطل العقل هي عبادة السلف، والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية.
وأتصور أن الإدراك الذاتى بالعقل هو قدرة الإنسان التي أرادها له الله، ويميزه بها عن باقى خلقه.
العقل والتفكير هو معجزة الخلق فينا، فكيف يحاول البعض أن يلغيها ولا يسمح باستخدامها خوفا على الدين وعلى معتقدات السلف، وكأن الإسلام يحتاج للحماية ممن يتفكرون وكأن لكلام السلف نفس قداسة القرآن.
لذلك فقد كرر الله كلمة العقل والتفكير والعلم والعلماء في قرآنه، بل ولم يجعل لرسوله معجزات مادية كما كان الحال مع الأنبياء الذين سبقوه، وكما طلب منه الناس عند بدء الرسالة.
طلبوا منه المعجزات أو أن يصعد إلى الله أو أن ينزل الكتاب لهم من عنده، فرد قائلا إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ.
“وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً”.
قال الشاب الأول: إذن أنت ترى أن استخدام العقل والتفكير من ثوابت الدين.
قلت: نعم.
قال: إذن ما رأيك في المسلسل الذي أثار الجدل؟.
قلت: سأناقشه معكم من مداخل مختلفة، الأول هو الجانب الفنى، من إخراج وتمثيل، وتصوير وخلافه، فهو من هذا المنظور يستحق الإعجاب والتقدير.
المدخل التالى: هو أصل القصة والحكاية ومدى صدقها في النقل عن الواقع الذي كان في «الرِقة» التي تم تمثيل دولة الخلافة فيها.. وهنا فإننى أُقدّر الجانب الفنى الذي راعى المُشاهد، وتَجَنب تكديره، بحقيقة العنف والقتل وجز الرقاب الذي كان يحدث في الواقع لكل من يختلف مع قادة داعش في هذا المكان وهذا الزمان.. لقد كان المسلسل، كما قال لى أصدقاء من العراق وسوريا، حنونا على المشاهدين لأن الواقع كان أبشع مما شاهدنا.
المدخل الثالث: حول دولة الخلافة، في “الرقة”، وهو ما قد لا يلاحظه المشاهد العادى.. المجتمع الذي يحكى عنه المسلسل ليس مجتمعا منتجا، فلم أر زراعا ولا عمالا ولا مصانع، بل الكل جنود ومحاربين، فمن أين تأتى ثروة هذا المجتمع، وكيف يحصلون على كل هذا السلاح وهذه القنابل؟، وهذا العتاد. وممن يشترونه؟.
ألا يثير ذلك تساؤلا عن ممولى هذا التوجه بهذا الشكل؟!.
المدخل الرابع هو شكل المجتمع الإسلامى الذي يضعه الدواعش وأمثالهم كنموذج يجب الأخذ به. هو مجتمع لا حقوق فيه للمرأة نهائيا، ولا رحمة فيه، ولا عدالة.. الأحكام تصدر وتُنفذ فورا بلا حق للمتهم في الدفاع عن نفسه، ولا إثبات على جرم.. والتنفيذ يتم بقسوة وعنف يخرج بالإنسانية عن مضمونها، ويثير التفكير فيما يعرضه هذا النموذج الذي يتلحف بالله عز وجل، وهو الذي وصف نفسه بالرحمن الرحيم، ولا علاقة له بهذا المجتمع المتطرف الظالم أحادى الفكر.
وأرجع إلى الفلسفة والى التحليل، الذي يقول إن محركات البشرية بلا تَحَضّر، هي مثلث السلطة والثروة والجنس.
في كل ما قرأت وشاهدت، فالقضية تدور حول هذا المثلث، سلطة البعض واستعبادهم للآخرين، بالإكراه والبطش، ومسح المخ ليصبح الجميع أدوات لبشر يستخدمون الدين لتحقيق مآرب بشرية، وتحقيق ثروات، والجائزة دائما هي المرأة في الدنيا والآخرة.
كل شىء يدور حول السلطة والشهوة، وحتى الاستشهاد الذي يدفعون الشباب إليه جائزته جنس في الآخرة مع الحوريات في السماء والسبايا في الأرض.
والسلطة تحتاج عبيدا، وكل من يُفَكر ويختلف هو كافر يستحق القتل لأنه يتحدى السلطة.
إن استخدام الله واسمه عز وجل عبر التاريخ، في كل الأديان، كان وسيلة للتحكم في الشعوب.. لا يختلف المسلمون في ذلك عن اليهود ولا المسيحيين، إلا أن الإسلام قال بصريح العبارة إنه لا كهنوت في ذلك الدين العظيم.. وأصر المسلمون على خلق هذا الكهنوت والسير في قطيع الطاعة لمن يدّعون أنهم خلفاء الله على الأرض.
قال الشاب الأول: وهل يؤدى الحوار إلى الشك ثم الإلحاد؟.
قلت: مرة أخرى التفكير هو وسيلتنا للمعرفة، ولكل إنسان رحلته، في استكشاف الحقيقة.. ومعرفة الله بالعقل وهو ما يؤدى إلى الإيمان الحقيقى..
يا شباب، اقرأوا، وتَفَكروا، وتعلموا، وناقشوا، وتحاوروا لتكونوا أهلا بإنسانيتكم، ولتستحقوا نعمة الله عليكم بأكبر هباته لكم، العقل والحرية والقدرة على التفكير.
*كاتب مصري – نقلاً عن المصري اليوم