حركة عدم الانحياز الجديدة.. الطريق الثالث في أزمة أوكرانيا

مدة القراءة 6 د

هل يحتاج العالم إلى تجاوز حالة الاستقطاب الحادّة في النظام الدولي، وتأسيس حركة عدم انحياز جديدة؟

في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونشوب الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، ووراءهما حلف وارسو وحلف الناتو، قرّرت بعض الدول عدم الانجراف وراء سياسات الحرب الباردة.

كان من نتائج ذلك تأسيس حركة عدم الانحياز، التي دشّنها تحالف ثلاثيّ ضمّ مصر والهند ويوغوسلافيا، وأصبح جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو وجوزيف تيتو من كبار قادتها.

اليوم، وفي عام 2022، وعلى أثر الغزو الروسي لأوكرانيا، والتلويح بإمكانية استخدام السلاح النووي في حرب عالمية ثالثة، وسط عقوبات غير مسبوقة، وصعود تاريخي لحالة عدم اليقين، ربّما يتوجّب التفكير في تأسيس حركة عدم انحياز جديدة.

تجاوزت إدارة الرئيس بايدن كلّ خطابها السياسي، وتجاوز الحزب الديمقراطي عقوداً من الهجوم على “الشيطان الإيراني”، وراحوا يبحثون رفع العقوبات، حتى تشارك طهران في تعويض نقص النفط الروسي على أثر العقوبات

مواقف قديمة تتجدّد

إنّ موقف القاهرة ونيودلهي وبلغراد، الذي تأسس في مؤتمر باندونغ عام 1955، يكاد يتكرّر في عام 2022. فالدول الثلاث أخذت مواقف متشابهة في الأزمة الأوكرانية، عنوانها الكبير: عدم الانحياز.

أدانت مصر الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنّها رفضت فرض عقوبات على روسيا خارج إطار آليّات النظام الدولي، ودعت إلى الحوار من أجل السلام.

اتّخذت الهند الموقف نفسه تقريباً، وقد سبق لنيودلهي أن عارضت قانون “الكاتسا” الأميركي، وأصرّت على تمتين علاقاتها مع موسكو وواشنطن معاً.

بموجب قانون “الكاتسا” تُعاقب الولايات المتحدة الدول التي تستورد أسلحة من روسيا، وكانت الهند قد تعاقدت على شراء الصواريخ الدفاعية الروسية إس 400، ولم تستجب لتهديد واشنطن بفرض عقوبات عليها.

ولمّا غزت روسيا أوكرانيا وقفت الهند على الحياد، إذ لا تزال روسيا أكبر مورِّد أسلحة للهند، ودعمتها كثيراً في أزمة كشمير في مجلس الأمن، ويمكنها أن تفعل العكس في أيّ وقت.

ضغط الطرفان المتصارعان على الهند، لكنّها لم تستجِب، واستمرّت في رؤيتها لعلاقة قويّة بالجانبيْن. ولمّا سُئل الرئيس الأميركي جو بايدن عن موقف نيودلهي لم يجد ما يقوله. ولمّا سُئلت الحكومة الهندية عن الاتّفاق على تسوية المعاملات الماليّة مع روسيا بالعملات المحليّة، قالت: جارٍ البحث بالفعل.

بدورها ترفض صربيا المشاركة في العقوبات على روسيا، على الرغم من الضغوط الأوروبية عليها. أدانت بلغراد الغزو، لكنّها عارضت العقوبات. قال رئيس البرلمان الصربي، مهاجماً الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة: لو أيّدنا العقوبات على روسيا، فهل ننضمّ إلى الاتحاد الأوروبي؟ بالطبع لا، لا في عام 2030 ولا عام 2050. ولو فرضنا عقوبات، وأفسدنا علاقاتنا مع روسيا والصين، وقطعنا هذا الخطّ، فهل يدعموننا؟ ثمّ قال رئيس البرلمان: “عندما اتّصلتُ أنا والرئيس في السنوات العشر الماضية بشخص لطلب المساعدة، هل تعلمون من هو؟.. إنّه الشخص الوحيد الذي ردّ على المكالمة، هل تريدون أن يتوقّف هذا الشخص عن الرّدّ أيضاً؟”.

يقصد رئيس البرلمان الصربي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويخشى أن تُضحّي بلغراد بموسكو، ولا تكسب واشنطن، لذلك فإنّ خيار الحياد هو الأنسب: إدانة الغزو ورفض العقوبات.

ثلاثة في غرب العالم

اتّخذت المكسيك والبرازيل والأرجنتين الموقف نفسه. قال الرئيس المكسيكي مانويل لوبيز: “لن نشارك في فرض العقوبات على روسيا، نريد علاقات جيّدة مع جميع الحكومات”.

في الأرجنتين انتقدت سفارة أوكرانيا الموقف الرسمي للبلاد، وقال مسؤول في السفارة: “لسنا راضين. يجب على الأرجنتين أن تشارك في العقوبات على روسيا”، لكنّ الأرجنتين واصلت موقفها في عدم المشاركة في العقوبات قائلة: “نرفض العقوبات الأحاديّة.. الأرجنتين تتواصل مع روسيا على الرغم من الوضع في أوكرانيا”.

في البرازيل كان الموقف نفسه هو ما اتّخذه الرئيس بولسانارو، وحين هاجم نائب الرئيس البرازيلي السياسة الروسية خلافاً لموقف الرئيس، قال الرئيس غاضباً إنّ “رئيس الدولة هو الذي يتحدّث عن هذه القضايا، والرئيس اسمه بولسانارو، نقطة، انتهى الكلام”.

تواصلت البرازيل مع روسيا لحلّ أزمة “الأسمدة المقدّسة”، حسب تعبير الرئيس، وكانت روسيا قد قرّرت حظر تصدير الأسمدة، فيما تعتمد البرازيل، “العملاق الزراعي”، بشكل كبير على الأسمدة الروسية. وقد تمّ حلّ أزمة الأسمدة، على الرغم من استمرار أزمة أوكرانيا.

 

بايدن براغماتيّ.. ونحن أيضاً

تجاوزت إدارة الرئيس بايدن كلّ خطابها السياسي، وتجاوز الحزب الديمقراطي عقوداً من الهجوم على “الشيطان الإيراني”، وراحوا يبحثون رفع العقوبات، حتى تشارك طهران في تعويض نقص النفط الروسي على أثر العقوبات.

وتجاوز بايدن أيضاً “شيطنة فنزويلا”، وراح يبحث رفع العقوبات عنها هي الأخرى، لسدّ العجز في النفط العالمي، وضبط الأسعار.

إذا كان الرئيس بايدن قد تجاوز كلّ الأيديولوجيا الحقوقية والديمقراطية، وراح يفاوض إيران وفنزويلا لرفع العقوبات، فلماذا لا تفكّر القوى الوسطى في العالم في مصالحها أيضاً، من دون الغرق في صراعات القوى الكبرى؟

يرى بنك “غولدن مان ساكس” أنّ العالم إزاء حالة غير مسبوقة من عدم اليقين، وأنّ أزمة النفط في 2022 هي خامس أكبر أزمة منذ الحرب العالمية الثانية. ويرى الرئيس بايدن أنّ بديل العقوبات هو الحرب العالمية، وترى إدارة الرئيس بوتين أنّ الحرب العالمية لا يمكن أن تكون إلّا نوويّة.

إقرأ أيضاً: درس أوكرانيا: مصالح لا مبادئ

هل يمكن لمصر والسعودية والإمارات، وللمكسيك والبرازيل والأرجنتين، وللهند وباكستان وفيتنام وصربيا أن يشكّلوا إطاراً عامّاً لحركة عدم انحياز جديدة. إنّها ليست حركة مؤسّسيّة كالحركة القديمة، بل إطار عالمي للعمل، يضع جدول أعمال أكثر عقلانية، وأكثر مصلحيّة.

إذا كانت روسيا قد عقدت شراكة استراتيجية مع الصين، وإذا كانت دول الناتو ترى وجوب العمل معاً، حتى لا ينتقل مركز الثقل في العالم من الغرب إلى الشرق، فإنّ الدول العاقلة ليست أعشاباً بين الأفيال، بل هي أفيال تمتلك الحكمة في عالم باتت فيه الحكمة عند مستوى الصفر.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

أمور خطيرة ليست للرّؤية ولا للكتابة؟

 هل هناك عصر إسرائيلي مقبل؟ لا يبدو ذلك صحيحاً على الرغم من تأكيدات نتنياهو. فالقضية الفلسطينية هي همٌّ عالمي وليست همّاً عربيّاً وحسب. أمّا الميليشيات…

الغرب والعرب: لرئيس يقود الثّلاثيّ لانتزاع وقف الحرب

يتصرّف العديد من عواصم القرار، في مقدَّمها واشنطن، على أنّ وقف النار في لبنان لم يحن وقته بعد. المداولات التي جرت في الأسابيع الماضية عزّزت…

نهاية يحيى: إنسانٌ “غيبيّ”… هَزَمَهُ العلم

لطالما كانت النهايات اختصاراً مكثّفاً للبدايات والخيارات التي يتّخذها كلّ واحدٍ منّا، خصوصاً نهايات الأشخاص الاستثنائيين. أولئك الذين يسرقون الأضواء، أو تسرقهم. كأن “ينتهي” مايكل…

كيف تعطّل الانتخابات الأميركيّة وقف إطلاق النّار في لبنان؟

لم يصدر عن واشنطن أو أيّ عاصمة غربية أيّ مواقف “جدّية” بإمكانها أن تشكّل عائقاً أمام  إسرائيل، بقيادة بنيامين نتنياهو، لوقف حربها في قطاع غزّة…