بيروت تُراسِل التاريخ: “هُنا العدالة… حَوِّل”

مدة القراءة 4 د


على بعد أيّام من ذكرى اغتيال رفيق الحريري، باني بيروت بعد الحروب الأهلية، وصانع صورتها التي تتآكل وتنهار منذ اغتياله، تقدّم بيروت للعالم ابنها نوّاف سلام، رئيساً، ومُنتخَباً، لأعلى وأرفع دار للعدالة في العالم: محكمة العدل الدولية. كأنّها ترجمة مقلوبة، حيث يصير “فاقد الشيء، وحدَهُ يُعطيه”.
ليست المفارقة عابرة. فالحريري قتله طنٌّ من الحقد والديناميت في قلب بيروت، وعجزت حتّى العدالة الدولية أن تعطيه حقّه. وتنازل عن حقّه أقرب المقرّبين منه. وبقيت بيروت بلا عدالة، يملأها العابرون فوق القانون وعليه، ويحكمها حَمَلَةُ السلاح، والقمصان السود، والشبّيحة والزعران، من كلّ حدبٍ وصوب، وكذلك السارقون والناهبون.
يخرج نواف سلام من بلاد تفتقد أوّلاً إلى العدالة، وحيث القضاء وجهة نظر، والقضاة يتوزّعون على القوى السياسية، “أبطالاً” كانوا في نظر الرأي العامّ، أو “حرامية”. وبعدما “انفخت دفّ” الدولة، وتفرّقوا عشّاقها، خرج إلى الرأي العامّ أشكالٌ وألوانٌ وأصنافٌ من القضاة، ممّن استقالوا، أو اعتكفوا، أو ابتعدوا عن الوظيفة. وكشّر هؤلاء عن أنياب شخصيّاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لنكتشف كم أنّ كثيرين منهم لا يستحقّون أن يفصلوا في نزاع على مستوى لجنة البناية، فكيف كان هؤلاء يتحكّمون برقاب الأبرياء والمجرمين، بعدما دخل كثيرون منهم إلى قصور العدل على أكتاف محادل مذهبية، وفق “6 و6 مكرّر”، وليس وفق الكفاءات والقدرات.
يخرج نوّاف سلام من هذه البلاد، أمّ الشرائع التي تحكمها شريعةُ الغاب، وأحكام قراقوش أكثر عدالةً ممّا يعانيه أهلها وأهل لبنان كلّهم. يخرج من هذه المفارقة المذهلة والمدهشة. كيف أنّ هذه البلاد تقدّم للخارج أحلى ما عندها، أو قُل يقطفُ الخارج أحلى زهراتها، ويترك لنا الحشائش والأشواك، نتوه بينها، تجرّحُنا وتتقاذفنا وتكوينا.

يخرج نواف سلام من بلاد تفتقد أوّلاً إلى العدالة، وحيث القضاء وجهة نظر، والقضاة يتوزّعون على القوى السياسية، “أبطالاً” كانوا في نظر الرأي العامّ، أو “حرامية”

يخرج نواف سلام من بلاد جنى أعمار أهلها أكلته العفاريت الخفيّة والمخفيّة، التي تلبس “طاقيّة الإخفاء”، وقد أكلت أعمارنا في المصارف وفي مصرف لبنان وفي سلال مثقوبة حملتها الحكومات المتعاقبة. ولا يوجد مرتكبٌ واحد في السجن أو تحت التحقيق. ولا نرى مسؤولاً واحداً يُحاسَبُ على نحو 100 مليار دولار “اختفت” في “ليلة ما فيها ضوّ قمر”. من هنا يخرج، من هذه الحكاية التي لم تعرفها البشرية من قبل، بحسب المؤسّسات الدولية.
يخرج نواف سلام من بلاد فجّر مجهولون نصف عاصمتها، وأزالوا مرفأها، وممنوعٌ على أهلها أن يعرفوا من فجّرهم، وكيف، ولماذا، وفي أيّ لحظة سياسية. ومن قاربوا المعرفة شطبهم القادر الخفيّ، ولم يسأل أحدٌ عن دمائهم، ناشطين ومصوّرين وعسكراً… ولا عدالة لأحد.
يخرج نواف سلام إلى العالم من بلاد في لحظة حرب لا نعرف لماذا بدأت ولن نعرف كيف ستنتهي. بدأها متعاطفون مع غزّة، نزولاً عند طلب مشروع كبير ما انفكّ يدمّر مدن العرب ويحوّلها إلى مدن أشباح مفلسة ومقهورة لا صوت فيها يعلو فوق صوت قرقعة السلاح. لا عدالة فيها لمن تهدمُ الحرب بيته، أو تقتلع أشجاره، وإلّا فسيلاحقه المسلّحون ليعرّفوه معنى عدالتهم.
يخرج نواف سلام، صوتاً لعدالةٍ مفقودة في بلاده، كأنّه يُلاعِب العالم، ويعيد تذكيرَهُ، بأنّ في لبنان نساءً ورجالاً صادقين، يحملون من الكفاءة ما يكفي ليحكموا بين الأمم، وليس بين الأفراد والشركات والمتخاصمين. في لبنان مَن يؤتمنون على عدالة البشرية كلّها، لكن لا تأتمنهم مجالس المافيا على منصب حكوميّ.

إقرأ أيضاً: “بيروتي” رئيساً لمحكمة العدل الدوليّة..

هي إشارةٌ للتاريخ فقط إلى أنّ قلب هذه البلاد لا يزال ينبض، قلب عدالتها تحديداً. ولعلّها تكون إشارة دولية إلى أنّ قطار العدالة قد يعود إلى بيروت في الآتي من الأيّام.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@

مواضيع ذات صلة

عزّ الشرق أوّله دمشق..

ساحة الامويين علم الثورة عليها انكسرت عصا سليمان التي يتّكئ عليها، فظهر أنّه ميتٌ من زمان. سقط نظام بشار الأسد، وبسقوطه اكتمل سقوط المحور الإيراني….

إنّا من العرب… وإنّا إليهم راجعون

لجرحنا الغائر في سوريا صوتٌ كصرير الأسنان، وهو جرح قديم ورهيب ومستدام، يسبق الفجيعة بشطب رفيق الحريري ويعقبها. حتى بات ربيع بيروت ينتظر أوان الورد…

كيف ستتلقّف المعارضة نقمة العلويّين على الأسد؟

أخيراً، غادرنا صاحب الضحكة البلهاء، والقرارات الخرقاء والخطابات الجوفاء والأفكار الهوجاء، التي حوّلت قلب العروبة النابض إلى صحراء… انسحب بعدما جعل سوريا، الدولة المحوريّة، بحراً…

اللّحظة السّوريّة”: ما المطلوب خلال ساعات؟

فيما بدت عواصم العالم حذرة في مقاربة الحدث السوري الكبير، سحب بنيامين نتنياهو كرسيّاً، جلس إلى طاولة التسوية السورية، فارضاً إسرائيل شريكاً حاضراً في مستقبل…