غزّة: صمود في وجه الحصار والإفقار والتجويع

2023-12-16

غزّة: صمود في وجه الحصار والإفقار والتجويع

مدة القراءة 6 د.


للحرب الإسرائيلية على غزة وجهان: وجه عسكري تدميري يعتمد في الدرجة الأولى على الدعم اللامحدود من الأسلحة والذخيرة التي تتلقّاها إسرائيل من الولايات المتحدة مباشرة (وكذلك المخزون الأميركي داخل إسرائيل). أمّا الوجه الثاني فهو الوجه الاقتصادي.

اتفاق 1994: السوق المشتركة

في عام 1994 توصّلت الأمم المتحدة إلى إقرار اتّفاق بين إسرائيل وغزة والضفة الغربية لإقامة ما اتُّفق على تسميته في ذلك الوقت السوق المشتركة. وبموجب هذا الاتفاق تقدِّم غزة والقطاع اليد العاملة، وتفتح إسرائيل مؤسّساتها الاقتصادية (مصانع ومزارع) لليد العاملة الفلسطينية. ومن خلال عائدات العمّال الفلسطينيين تُموّل مشاريع التنمية في الأراضي الفلسطينية المحرّرة. لم تلتزم إسرائيل بالاتفاق. بل إنّها ذهبت إلى أبعد من ذلك، فصادرت عائدات السلطة الفلسطينية من الضرائب التي تجمعها إسرائيل من الفلسطينيين. وكان الحظر على غزة أشدّ اختناقاً.

من أجل ذلك اعتمدت غزة والضفة الغربية على المساعدات الخارجية. ومع بداية الحرب الحالية كانت نسبة دخل الفرد في إسرائيل تزيد 15 مرّة على نسبة دخل الفرد في الضفة والقطاع.

في عام 2007 تولّت حركة حماس السلطة في قطاع غزة. وفي العام التالي (2008) انفجرت أوّل حرب بين حماس وإسرائيل، تلتها حربان في عام 2014 ثمّ في عام 2021. وكلّفت كلّ حرب قطاع غزة ما يعادل الدخل العامّ لمدّة سنة كاملة

أدّى ذلك إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية. فالصرف الصحّي يخدم فقط ثلث سكّان الضفة الغربية. ويعيش 40 في المئة من سكّان الضفة من دون مصدر ثابت للمياه.

صحيح أنّ إسرائيل سمحت لنسبة ضئيلة منهم بالعمل في مصانعها ومزارعها، لكنّها كانت تفرض عليهم عقوبات قاسية واستنزافيّة.

أمّا في غزة فكان الوضع أشدّ سوءاً. فقد تقلّص حجم اقتصادها 2.5 في المئة في كلّ عام. وفُرض عليها حصار كامل منذ عام 2007. لم يُسمح لغزة مثلاً بمولّدات كهربائية حتى تبقى معتمدة على ما تسمح به إسرائيل من كهرباء أو من مازوت وبنزين.

في عام 2007 تولّت حركة حماس السلطة في قطاع غزة. وفي العام التالي (2008) انفجرت أوّل حرب بين حماس وإسرائيل، تلتها حربان في عام 2014 ثمّ في عام 2021. وكلّفت كلّ حرب قطاع غزة ما يعادل الدخل العامّ لمدّة سنة كاملة.

تقول الأمم المتحدة إنّ أهل غزة يعيشون منذ عام 2021 تحت خطّ الفقر. ولذلك يعتمد 70 ألف فلسطيني من أهل غزة على ما تقدّمه لهم السلطة الفلسطينية في رام الله بالضفة الغربية. وعندما توقف إسرائيل تسديد مستحقّات السلطة، تقطع الطريق أمام وصول هذه التقديمات إلى أهل غزة.

تقدّم قطر مساعدات شهرية لغزة تبلغ 10 ملايين دولار. وتسدّد السلطة الفلسطينية فاتورة كهرباء غزة إلى إسرائيل (تحسم إسرائيل المبلغ من عائدات السلطة الفلسطينية من الضرائب المستحقّة على فلسطينيّي الضفة والتي تتولّى إسرائيل تجميعها).

تتولّى هيئة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة مسؤولية تعليم أكثر من مئة ألف طفل من أطفال غزة. أمّا المستشفيات فتنفق عليها وتديرها مؤسّسات خيرية أجنبية وعربية.

لحركة حماس التي تشرف على القطاع جهاز إداري يراوح عدد أفراده بين 20 ألفاً و50 ألفاً. وتبلغ نسبة الإنفاق على هذا الجهاز ما يعادل 8 في المئة من الدخل خلافاً لما هو قائم في الضفة الغربية. لا تستورد غزة من إسرائيل أيّ شيء من حاجاتها. تحصل على هذه الحاجات من مصر ومن الضفة الغربية. ولا يمكن أن يتمّ ذلك إلا تحت إشراف إسرائيل مباشرة.

إضافة إلى المساعدة القطرية الشهرية، يحصل القطاع أيضاً على مساعدة من إيران تبلغ 100 مليون دولار في العام. وتقدَّم هذه المساعدة بمعرفة أميركية (وليس بموافقة أميركية). كما تحصل على مساعدات وهِبات فردية من دول إسلامية وعبر مؤسّسات ماليّة دولية من لندن وإسطنبول بصورة خاصة. ولقد تمّ إنشاء مؤسّسة رقابة لتجمّد هذه المساعدات تحت شعار “مكافحة الإرهاب”.

اعتمدت غزة والضفة الغربية على المساعدات الخارجية. ومع بداية الحرب الحالية كانت نسبة دخل الفرد في إسرائيل تزيد 15 مرّة على نسبة دخل الفرد في الضفة والقطاع

خطورة وصف حماس بالإرهاب

من هنا خطورة وصف المقاومة الفلسطينية التي تمارسها حماس في غزة بأنّها “إرهاب”. فقد أدّى التدمير الإسرائيلي لمقوّمات الاقتصاد المحلّي الصغير والمحدود (جرف المزارع وخاصة حقول الزيتون وتدمير مرافئ الصيد البحري مع وقف أو حظر المساعدات الخارجية) إلى الاختناق الاقتصادي الذي يتكامل مع الاختناق الاجتماعي الذي تفرضه القوات العسكرية الإسرائيلية.

يُضاف إلى ذلك كلّه الإجراء الذي اتّخذته إسرائيل أخيراً بتجميد حصّة السلطة الفلسطينية من عائدات الضرائب التي تجبيها نيابة عنها حتى لا تحوّل السلطة جزءاً من هذه العائدات إلى غزة. وتلتزم حكومة نتانياهو بهذا الإجراء على الرغم من أنّ مسؤولين أميركيين، يشاطرهم مسؤولون إسرائيليون، يعتقدون أنّ السلطة الفلسطينية بحاجة إلى مزيد من الدخل الماليّ وليس إلى تجميد المستحقّات حتى تمارس الدور الإيجابي المطلوب منها في هذه المرحلة من الحرب. ثمّ إنّ المساعدات التي تُرسل بمعرفة الولايات المتحدة وعبر مؤسّساتها المالية من قطر ومن مؤسّسات خيرية دولية أخرى، جُمّدت أيضاً، وهو ما يشدّد الخناق على سلطة حماس في القطاع المحاصَر ويزيد من الصعوبات التي تواجهها السلطة الفلسطينية في رام الله.

هكذا يتكامل الحصار العسكري الإسرائيلي مع الحصار المالي والاقتصادي، وكذلك الصحّي والإنساني، لحمل السلطة في غزة على الرضوخ للشروط الإسرائيلية. وهو ما لم يحدث حتى الآن. ولا يبدو أنّ سلطة حماس في وارد إعادة النظر في موقفها.

يراوح عدد موظّفي الإدارة في سلطة حماس بقطاع غزة بين 20 و30 ألف موظّف، وتشكّل قيمة الرواتب التي تقدَّم إليهم ما يعادل 0.8 في المئة من الدخل القومي. يعيش هؤلاء اليوم دون أيّ دخل أو تعويض. فإذا كان معدّل العائلة خمسة أفراد فقط (والمعدّل أعلى من ذلك بكثير)، فإنّ معنى ذلك أنّ 150 ألف موظّف يعيشون من دون دخل منذ أن بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة.

يُضاف إليهم 70 ألفاً آخرون يعتمدون على التحويلات التي تتلقّاها السلطة في غزة من السلطة في رام الله والتي توقّفت كلّياً أيضاً.

إقرأ أيضاً: غزّة فرصة لبوتين.. لكن؟

تتكامل هذه العناصر مع الحصار الكلّي والتدمير الكلّي والقتل العشوائي الذي تمارسه إسرائيل في القطاع لتحوّل غزة إلى أرض محروقة.

حاول أرييل شارون (رئيس الحكومة ووزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق) ذلك وفشل. وجسّد فشله ليس فقط بالانسحاب من غزة، بل بتفكيك المستوطنات اليهودية التي زرعها فيه. وهذا ما يبدو أنّ نتانياهو سوف يضطرّ إلى القيام به أيضاً تحت ضغط الصمود الفلسطيني الذي يحظى باحترام العالم وتقديره.

إقرأ أيضاً

نتنياهو و”الحركة”.. واحد

مذهل مستوى التشابه بين الانتقادات الأخيرة التي وجّهها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ضدّ حماس، من منصّة قمّة البحرين، وتلك التي وجّهها الوزير في حكومة…

العراق: لنا “الصدر” دون العالمين…!

كان لافتاً الاهتمام الذي أبدته قناة “المنار” التابعة للحزب بالصلاة الجامعة التي دعا إلى إقامتها في العاصمة العراقية بغداد “التيار الوطني الشيعي”، وهو الاسم البديل…

مصر وإسرائيل… كشف المستور

كان السلام المصري الإسرائيلي ناقصاً بفعل افتقاره إلى التطبيع الشعبي، وعارياً بفعل انعدام عمقه الإقليمي، وما ينطبق على مصر ينطبق على الأردن، مع اختلافات لا…

التسوية: لا ثقة للعرب برعاتها وأطرافها

ما صدر عن القمة العربية في البحرين هو الحدّ الأقصى من العمل الدبلوماسي المنضبط في ظلّ عالم مرتبك شديد السيولة، لا ثقة لدى الدول العربية…