الاستقرار السياسي.. في حمى الأمير

مدة القراءة 7 د

شكّلت قمّة جدّة العربية التتويج العمليّ للتحوُّل السياسي الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان في السعودية وعلى مستوى الإقليم والعالم. أُعدّ كلّ شيء بعناية فائقة لبعث الرسائل في كلّ الاتّجاهات.
سيطرت ثلاثة عناوين على شكل القمّة ومخرجاتها، وهي الكلمة المفتاحيّة للأمير محمد بن سلمان، واستضافة بشار الأسد وإعادته إلى فلك الشرعية العربية على الرغم من التاريخ الدموي لنظامه منذ اندلاع الثورة السورية في ربيع عام 2011، واستضافة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ضيفاً خاصّاً على القمّة في لحظة دوليّة شديدة التعقيد.
الذين يسألون ماذا أخذ الأمير محمد بن سلمان من إيران مقابل دعوة الرئيس السوري، لم ينتبهوا إلى أنّ الاستضافة تطمح إلى أخذ الأسد بعيداً عن إيران ما أمكن، من دون أن تدّعي النجاح المضمون. فهي محاولة وإن كان لها تاريخ طويل من الفشل، لكن لم يبقَ غيرها على طاولة العرب بعدما انتصر بشار على شعبه مدعوماً من إيران وميليشياتها المذهبية، كما من روسيا لاحقاً، وفي ظلّ واقع عربي تميّز بأعلى درجات التشرذم والتشتّت والتنافس على الساحة السورية، وهو ما أنتج هذا الهول المرعب في تاريخ المشرق العربي والمنطقة.
طبعاً لا تحتاج السعودية إلى دروس من أحد عن إيران وطبيعة النظام فيها. فلم يسبق أحدٌ ولي العهد السعودي إلى قول ما قاله في هذا الخصوص، سواء في وصفه للخامنئي بأنّه هتلر العصر، أو مجاهرته بنقل المعركة إلى داخل إيران، وهو ما حصل من خلال تجربة عربية إعلامية غير مسبوقة عبر “إيران إنترناشيونال” التي كانت أحد أبرز عناوين التفاوض مع الإيرانيين بحسب مصادر واكبت المفاوضات. لقد تحوّلت هذه المحطة إلى المصدر الأوّل للإيرانيين داخل ايران في عزّ الانتفاضة الأخيرة بعد مقتل الشابّة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق.

شدّد وليّ العهد السعودي، في مستهلّ كلمته في حفل افتتاح القمّة العربية في جدّة، على أنّ السعودية لن تسمح بأن تتحوّل المنطقة العربية ميداناً للصراعات

ضمانة الصين الجدّية
في هذا المجال أيضاً لا يجوز تجاهل الضمانة الصينية للإتفاق الإيراني – السعودي وهي ضمانة أكثر من جدّية بسبب العلاقات الاقتصادية العميقة بين طهران وبكين، وحاجة إيران “المصيرية” للدعم الاقتصادي سواء في المجال النفطي أو في غيره من المجالات الحيوية للاقتصاد الإيراني المنهار تحت عقوبات غربية حادة. لذلك كله لن تغامر القيادة الإيرانية في تعريض الضمانة الصينية لأي اهتزاز.
تحمل استضافة الأسد رسالة القمّة باسم كلّ العرب إلى واشنطن، وفيها أنّ المنطقة دفعت ما يكفي من أثمان لقاء فشل السياسات الأميركية، بدايةً من ملفّ العراق حيث لم تستمع إدارة جورج بوش لتحذيرات الأمير الراحل سعود الفيصل من أنّ إسقاط نظام صدّام سيفتح الباب أمام إيران لإطلاق مشروعها المذهبي كما لم يسبق أن تسنّى لها ذلك. ولم تستمع إدارة باراك أوباما إلى السعوديّين والإماراتيّين الذين رأوا أنّ الاتفاق النووي مع إيران من دون وضع ملفّات إيران الإقليمية على الطاولة يُعدّ خطأً استراتيجيّاً ظهرت نتائجه بوضوح بعد عام 2015 عبر فجور الأداء الإيراني بقيادة الجنرال قاسم سليماني الذي كان يتجوّل على جبهات المنطقة من كركوك إلى حلب، بلا حسيب أو رقيب. وهي رسالة إلى أميركا التي أبت أن ترى في حرب اليمن حرباً إيرانية بالوكالة تخوضها إيران عبر ميليشيا الحوثي. فحرب اليمن كانت حرب اضطرار لا حرب اختيار. وقد أشعلها الانقلاب الإيراني عبر ميليشيا الحوثي على الحلّ السياسي الذي وضعه الخليجيون بقيادة السعودية. وها هي واشنطن عبر الموفد الأميركي إلى اليمن تيم ليندركينغ تعود إلى تبنّي التوصيف السعودي للحرب بأنّها حرب إيرانية بالوكالة ضدّ المملكة بعدما بالغت واشنطن في تصنيفها أزمةً إنسانيةً لا أكثر ولا أقلّ، وتتحمّل السعودية بشكل ظالم المسؤولية عن تفاقمها.
الأهمّ أنّها رسالة إلى أميركا التي أهملت الملفّ السوري طوال ولايتين لأوباما وولاية كاملة لترامب ونصف ولاية لبايدن، ولا تتورّع الآن عن المحاضرة بعفّة عن حقوق الإنسان السوري الذي ساهمت في سحقه وإطالة أمد معاناته الملحميّة حين كانت تقدر أن تلعب دوراً رادعاً أكثر فاعلية لحماية الشعب السوري.
أمّا دعوة الرئيس زيلينسكي فهي تأكيد لموقف الحياد الإيجابي الذي تتّخذه السعودية والذي عبّر عنه بكفاءة عالية وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود. إنّه حياد إيجابي بين مراميه الأساسية عدم الاقتصار على تعميم الاستقرار الذي يُعتبر السبيل لحماية التنمية والنموّ في الشرق الأوسط فحسب، بل وفي العالم حيث أمكن. وهذا ما يقودنا إلى مركزية الكلمة المفتاحيّة للأمير محمد.

مصالح الشعوب أوّلاً
لقد شدّد وليّ العهد السعودي، في مستهلّ كلمته في حفل افتتاح القمّة العربية في جدّة، على أنّ السعودية لن تسمح بأن تتحوّل المنطقة العربية ميداناً للصراعات، مؤكّداً “لدول الجوار والأصدقاء في الغرب والشرق أنّنا ماضون للسلام والخير والتعاون والبناء، بما يحقّق مصالح شعوبنا ويصون حقوق أمّتنا ومسيرة التنمية التي تأثّرت نتيجة الصراعات التي عانت منها الشعوب خلال السنوات الماضية”.

بهذا المعنى كانت الدعوة استثماراً جدّيّاً في أزمة كونيّة، تساعد الأمير محمد بن سلمان على حفر مكان جديد له في السياسة الدولية، كصانع تسويات وسلام، وتسديد ضربة قاسية للمؤامرة التي حيكت ضدّ المملكة وضدّه شخصيّاً وهدفت إلى تصويره بلطجيّ الشرق الأوسط لأنّه يعبّر عن استقلالية غير مسبوقة في علاقة المملكة بواشنطن منذ أن بدأ التحالف بين البلدين في أربعينيات القرن الماضي.
عبر هذه التفاصيل البارزة التي حيكت على ثوب قمّة جدّة، تؤكّد السعودية أنّها تقود تحوُّلاً استراتيجيّاً في توجّهات سياستها الخارجية، بعيداً عن المواجهات العسكرية والسياسية، وبعيداً عن التخندق القاتل في محاور أمميّة، بهدف تعزيز البيئة المؤاتية لعصر ما بعد النفط، عبر ضمان الاستقرار الإقليمي الذي هو شرط موضوعي للازدهار الاقتصادي.
حسمت قمّة جدّة التوجّه نحو الاستثمار في عالم الغد وليس في توازن القوى في لحظته الراهنة. لا تريد السعودية كما لا تريد الهند أو كوريا الجنوبية أو اليابان أو فرنسا أو ألمانيا أن تعلق في الحرب الباردة الصينية الأميركية. وتقول استضافة زيلينسكي بالفم الملآن أنّ الرياض لا تنحاز إلى روسيا ضدّ أميركا. كما أنّ انضمامها المرتقب إلى مبادرة “آي تو يو تو”، إلى جانب الإمارات وأميركا وإسرائيل والهند لربط الشرق الأوسط بالهند، يقول إنّ أفقها دولةً ومشروعاً يتجاوز لعبة الرقص بين الصين وأميركا. فلا يخفى أنّ العلاقات الهنديّة السعودية تُقلق الصين التي كانت بدورها ضيفة مكرّمة في الرياض عبر ثلاث قمم ثنائية وخليجية وعربية.
إلى ذلك تجسّدت الشراكة السعودية الأميركية على هامش القمّة في الرعاية السعودية الأميركية المشتركة لحلّ سياسي للأزمة السودانية، وهو ما يشكّل بدوره دليلاً على اتّساع أفق القيادة السعودية.
لئن شكّلت العلاقات السعودية الصينية، والسعودية الهندية، والسعودية الأميركية، والمصالحات الإقليمية مع تركيا وإيران والخليجية مع قطر والعربية مع سوريا مساراً متميّزاً لاستقلالية السياسة الخارجية السعودية هدف إلى التعامل مع القضايا ومع الجهات الفاعلة على أساس يخدم المصالح الوطنية للمملكة، فإنّ الرياض تراهن أيضاً على التمكّن من لعب دور استباقي في تشكيل الديناميكيات الإقليمية عامّةً.

إقرأ أيضاً: “مسطرة بن سلمان” في القمّة العربيّة؟

كل هذا لا يلغي على الإطلاق حق المعترضين انطلاقاً من تجارب مؤلمة وعميقة بدءاً من النازحين السوريين وصولاً إلى اليمن مروراً بلبنان والعراق وليبيا. لكن حق التجربة أنها صارت احتمالاً سياسياً.
قمّة جدّة هي قمّة هذا التحوُّل الضخم في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية نحو الحوار والاستقرار، ونحو استقلالية القرار الوطني والإقليمي، ونحو انتزاع الأدوار المقرِّرة التي تناسب مصالح من يعيشون في هذه المنطقة. ستكون لهذه القمّة تداعيات جيوسياسية بعيدة المدى، إذا ما تيسّرت ولادة بيئة تعاونية تمهّد لشرق أوسط أكثر انسجاماً. لا يشكّ عاقل في أنّ نجاح هذا المسعى يعتمد إلى حدّ كبير على استعداد الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى للردّ بشكل متبادل على مبادرات الرياض، وهو أمر تدركه الرياض بوضوح لا لبس فيه، لكنّها في الوقت نفسه ترى أنّها المغامرة الوحيدة التي تستأهل التجريب.

مواضيع ذات صلة

أسئلة إيرانيّة وجوديّة بعد الضّربة الإسرائيليّة وانتخاب ترامب

خمسة أسئلة حاسمة، فرضتها الضربة الإسرائيلية الأخيرة على إيران، لم تكن مطروحة بهذه الحدّة من قبل. وهي ليست أسئلة تتعلّق بالتكتيكات والمناورات بقدر تعلّقها بجوهر…

إيران خسرت “قاعدتها المتقدّمة”… وباتت “في المواجهة”

مهما قيل ويُقال عن الحزب باعتباره القوّة التي لا تُقهر والتنظيم الذي لا يُخترق أمنيّاً على الرغم ممّا أصابه من أهوال وصلت إلى درجة محو…

أنقرة – موسكو: الشّدّ والجذب السّوريّ؟

صدر عن القيادات السياسية التركية والروسية في الآونة الأخيرة تصريحات متناقضة حول ملفّات ثنائية وإقليمية مشتركة تعني الطرفين، الشقّ السوري فيها كانت له الأولويّة دائماً…

ترامب عن إيران ولبنان: كلام ممنوع من النّشر

قبل 72 ساعة من فتح صناديق الاقتراع في أميركا، مرّ ترامب مرور الكرام في ذلك المطعم في ديربورن، في الضاحية الجنوبية لمدينة ديترويت. وقف موزّعاً…