السودان: الاغتصاب والدمار..أسلحة قوات الدعم السريع

2023-08-01

السودان: الاغتصاب والدمار..أسلحة قوات الدعم السريع

مدة القراءة 8 د.


يقع مثلّث برمودا جنوب المحيط الأطلسي، وتبلغ مساحة ذلك المثلّث المتساوي الأضلاع نحو مليون كيلومتر مربّع.

ثمّة قصص عديدة عن ذلك المثلّث الغامض، وحكايات لا تنتهي عن ابتلاعه السفن والطائرات التي تمرّ به، بحيث لا يبقى لها أثر.

لا يؤكّد العلم الحديث أيّاً من تلك الروايات، ولا حتى ذلك التفسير المتعلّق بوجود قوى مغناطيسية قويّة تحت مياه المثلّث، لكنّ الأساطير عن المثلّث لم تتوقّف قطّ، إذْ يعتقد كثيرون أنّ تحت مياه المثلّث ترقُد قارّة أطلانطس الغارقة.

يبدو السودان كبلدٍ غاطس، تجذبه إلى الأسفل تلك الحرب المروّعة التي دمّرت كلّ شيء، ويبدو “الجوع والقتل والاغتصاب” أضلاع مثلّث برمودا السوداني، الذي تتمدّد الخرطوم في قاعِه.. كمدينة أطلسيّة غارقة!

لا يؤكّد العلم الحديث أيّاً من تلك الروايات، ولا حتى ذلك التفسير المتعلّق بوجود قوى مغناطيسية قويّة تحت مياه المثلّث، لكنّ الأساطير عن المثلّث لم تتوقّف قطّ، إذْ يعتقد كثيرون أنّ تحت مياه المثلّث ترقُد قارّة أطلانطس الغارقة

الجوع والشّرف

بعد 100 يوم من الحرب في السودان أصبح هناك 25 مليون جائع من بين 45 مليون نسمة، أي أنّ أغلب السكّان دخلوا دائرة الجوع.

لن يصمد ذلك الرقم المروّع طويلاً، فقد بدأت تنفد موادّ التموين من المنازل، كما أنّ مخازن السلع والأغذية قد أصبح معظمها فارغاً، والباقي في الطريق. وحتى المبادرة الأخلاقية لعددٍ من السودانيين بعنوان “حوجة غذائية” قد نفدت، بعدما نفدت التبرّعات التي جاءتها، واليوم تواجه “حوجة غذائية – 2” ضعف التبرّعات وندرة الموادّ الغذائية.

للأسف الشديد فإنّ نداءات الأمم المتحدة للحصول على مساعدات لم تلقَ أُذناً صاغية، إذْ لم يقدّم المانحون الدوليون شيئاً يُذكر، وكلّ ما وصل من دعم دوليّ لا يكفي لتقديم الغذاء والدواء لملايين البائسين من نازحين ولاجئين.

في اليوم الـ 100 لحرب السودان صُدِم السودانيون بوفاة عازف الكمان خالد سنهوري بسبب الجوع، ولأنّ الجوع محاصَرٌ بالخوف، فقد قام شقيقه وصديقٌ له بدفنِه أمام منزله، فالمضيّ إلى مسافةٍ أبعد قد يعني قتل المشيّعين أنفسهم!

تتوازى مع الجوع قصص مفزعة تتعلّق باقتحام المنازل، ونهب كلّ ما فيها. قال لي مسؤول سوداني سابق: هناك مستويان من اقتحام المنازل: المستوى الراقي، وهو دعوة سكّان المنزل إلى المغادرة فوراً من دون أخذ أيّ شيء من متاعهم، والمستوى السائد، وهو الاقتحام الدموي للمنزل وقتل من فيه، واغتصاب نسائه، وأحياناً ما يكون الاغتصاب في حضور العائلة، من أجل الإمعان في الإهانة والترويع.

ولمّا سألته عن الجاني، قال لي: الأغلبية العظمى من هذه الجرائم هى جرائم قوات الدعم السريع. سوف تجد أنّهم ينفون المسؤولية بعد كلّ جريمة، حتى جريمة الاغتصاب التي تمّ تصويرها، وهزّت المجتمع السوداني، وكان أحد أفراد الدعم السريع يقف بالخارج لحراسة الاغتصاب بالداخل، قاموا بنفيها. لا أحد يحترم ذلك النفي، ولا أحد يُصدِّقه، فكلّنا واثقون تماماً أنّ الدعم السريع يقف وراء ذلك كلّه.

قامت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” بعمل تحقيق ميداني بشأن حوادث الاغتصاب، والتقت عدداً من السيّدات الضحايا، وحسب “بي بي سي” فإنّ أغلب البلاغات المقدّمة هي ضدّ عناصر الدعم السريع.

حسب مختصّة في جمعية حقوقية سودانية، فإنّ الاغتصاب قد استخدمته قوات الدعم السريع سلاحاً في الخرطوم، كما سبق أن استخدمته في زمن عمر البشير سلاحاً في دارفور. بدورها اتّهمت الأمم المتحدة قوات الدعم السريع باستخدام سلاح الاغتصاب على نطاق واسع في العدوان المأساوي على قبيلة المساليت في دارفور.

إذا استمرّت الحرب سنوات أخرى، فإنّ الأمل في الإنقاذ سيكون مستحيلاً. لن تكون هناك أجيال جاهزة لفعل أيّ شيء، بل أجيال محبطة ومحطّمة ومفلسة

15 مليون طفل: اغتيال المستقبل

لم يكن أطفال السودان يحتاجون إلى تلك الحرب لكي يدخلوا عالم البؤس والشقاء، فقد كان الوضع سيّئاً قبل الحرب وصار أسوأ بعدها، وحسب تعبير الأمم المتحدة: “كان الوضع بالنسبة لأطفال السودان مأساوياً ثمّ صار كارثياً”.

تقدّر اليونيسيف عدد الأطفال الذين احتاجوا إلى مساعدات إنسانية قبل الحرب بـ9 ملايين طفل، وبعد الحرب بـ15 مليون طفل. وكما لم تحصل مفوضية الأمم المتحدة للّاجئين على تبرّعات لائقة للمساعدة، فإنّ اليونيسيف ليست أفضل حالاً، إذْ تعاني المنظمة الدولية المختصّة برعاية الطفولة من نقص حادّ في التمويل.

قال لي أكاديمي سوداني يعمل في لندن: هناك مليون طفل سوداني مهدّدون بالموت جوعاً، وقد كان ثلث الأطفال خارج التعليم، واليوم بعد انهيار العملية التعليمية بأكملها فإنّ النسبة ارتفعت كثيراً، وعلى الرغم من أنّ كلّ الحرب هي مأساة كبرى، فإنّ وضع الأطفال هو الطامة الكبرى، فالأطفال هم المستقبل، وما يجري ليس قتل الحاضر، بل اغتيال المستقبل.

إذا استمرّت الحرب سنوات أخرى، فإنّ الأمل في الإنقاذ سيكون مستحيلاً. لن تكون هناك أجيال جاهزة لفعل أيّ شيء، بل أجيال محبطة ومحطّمة ومفلسة. لا تعرف سوى ثقافة الدم والسلب. ما يجري ببساطة هو دهس القرن الحادي والعشرين السوداني بالعربات المصفّحة.

زيارة لمريم المهدي

قبل سنوات التقيتُ رئيس الوزراء السوداني الأسبق الإمام الصادق المهدي في مكتبه في بناية “طيبة مول” وسط القاهرة، وقبل أيّام قُمنا، أنا وزوجتي وابنتي، بزيارة الدكتورة مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية السودانية السابقة، في منزلها بحيّ التجمّع الراقي شرق القاهرة.

كان السودان حين التقيت الإمام المهدي يئنّ تحت حكم جماعة الإخوان، وكان الأمل ما يزال كبيراً، وقد أصبح السودان حين التقيتُ الوزيرة مريم المهدي أكثر بؤساً، وقد التهم الألم الأمل.

قالت لي الوزيرة السودانية والقيادية في حزب الأمّة: ما يجري في السودان ليس صراعاً على السلطة، بل تدمير تامّ للوطن. لقد تمّ تحطيم كلّ ما أمكن تحطيمه.

يغرّد حميدتي الذي لم يحصل على الشهادة الإعدادية، باللغة الإنكليزية. وبينما يواصل السودانيون اتّهام قوّاته بالقتل والنهب والاغتصاب، يتحدّث حميدتي كمبعوث أمميّ يلقي محاضرة في حقوق الإنسان

واصلت الوزيرة كلامها في حزنٍ طاغٍ: إنّ نهب المنازل يحمل انتقاماً شديداً. إنّهم يأخذون كلّ شيء، حتى صور الذكريات للعائلات على الحوائط يتمّ نهبها. لا أعرف ماذا سيفعلون بها؟ في بعض الحالات كانوا يسرقون كلّ ما في المنزل، فإذا ما بقي شيء يصعب حمله أو ليسوا بحاجة إليه، يقومون بتدميره في مكانه. إنّها المكايدة والحقد والانتقام.

في وصف اجتماعي مؤلم قالت الدكتورة مريم المهدي: فيما قبل كانوا يتحدّثون عن المركز والهامش، وعن الطبقات الميسورة والطبقات المهمّشة.. الآن لا مركز ولا هامش، لا ميسور ولا فقير، لقد تمّ تحطيم كلّ شيء، أصبحت الخرطوم كلّها هامشاً!

حتى في حال العودة، سيحتاج الأمر إلى جهد كبير. لقد حطّموا دار الوثائق القومية، السجلّ المدني، السجلّ العقاري للأراضي، مؤسّسات القانون والمحاماة، حتى يصعب في المستقبل إعادة بناء الدولة، ولكي تهيم بلادنا في عالم التيه والفراغ.

لم تفقد الدكتورة مريم المهدي الأمل في المستقبل، فالوزيرة التي درست الطبّ، والتحقت بالجيش حتى حصلت على رتبة رائد، ترى أنّ السياسة هي فنّ الممكن، وأنّ حماية الدولة والشعب لا تعرف المستحيل، وأنّ وراء كلّ هذا الغبار يوجد أمل.. السودان يستطيع.

عودة حميدتّي

بعد غياب دام ثلاثة أشهر عاد قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الشهير بـ”حميدتي” ليطلّ على الشاشات من جديد. بدا الرجل شاحباً ونحيفاً، وربّما كان مريضاً أو جريحاً، لكنّه بالتأكيد مدعوم إسرائيلياً.

تحدّث الرجل، المتّهمة قواته بسكب عبوات البنزين على أبناء قبيلة المساليت وحرقهم أحياء، عن المستقبل الديمقراطي الذي يريده للبلاد، وتحدّث وريث الميليشيا التي شاركت في قتل 300 ألف سوداني في دارفور لصالح نظام عمر البشير الإخواني، وعملت بكلّ طاقتها في خدمة فلول السلطة السابقة، عن سيطرة الفلول على القوّات المسلّحة.

إقرأ أيضاً: موضوعية المغرب (وتركيا).. مقابل اللغو الإيرانيّ..

يغرّد حميدتي الذي لم يحصل على الشهادة الإعدادية، باللغة الإنكليزية. وبينما يواصل السودانيون اتّهام قوّاته بالقتل والنهب والاغتصاب، يتحدّث حميدتي كمبعوث أمميّ يلقي محاضرة في حقوق الإنسان.

يحاول حميدتي، رجل الدم والذهب، أن يغلق أبواب الأمل أمام قرابة خمسين مليون سوداني، وفيما يبدو أنّه قد نجح، فإنّني واحدٌ ممّن يرون أنّ رجل الهدم لا يمكنه أن يكون رجل البناء.

سيكون السودان مثل “طائر الفينيق” الأسطوري. يموت ثمّ يحيا، يحترق ثمّ يعود. ينتفض من بين الرماد، ثمّ يبدأ من جديد.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

إقرأ أيضاً

وعد بلفور: أوروبا تطرد يهودها… وأميركا توافق (4/2)

في قراءة نقدية حول الصهيونيّة والصهيونيّة المسيحيّة ومعاداة الساميّة، يقدّم الدكتور مصطفى علّوش خلاصة دراسة أعدّها، على أربع حلقات، ينشرها موقع “أساس”. في الحلقة الثانية…

عدوان 7 أيّار.. حان وقت العودة من الدّوحة

بعد أحداث 7 أيار 2008 بأسبوع واحد، شهدت منطقة المصيطبة في بيروت حراكاً مكثّفاً من قبل حركة أمل باتّجاه أهل المنطقة السُّنّة، وذلك بهدف معالجة…

غزّة تشطر تركيا إلى شطرين

تأخّر رجب طيب إردوغان ستّة أشهر قبل أن يحسم رأيه في قضية غزة. حدث “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأحدث معه الارتباك الإردوغانيّ…

“منظومة الانتهاك”

لا عُذر لمن فوجئ. أين المفاجأة؟ 1 + 1 = 2. معادلة بسيطة. كلّ ما نعيشه منذ 20 عاماً في هذا البلد لا بدّ أن…