على بعد كيلومتر عاطفيّ من الحريق

مدة القراءة 5 د

شاعر بعكّازين تحت المطر

“لا يزال شبّاك وفيقة نشوان يطلّ على الساحة” يا رجل. ماتت وفيقة وأخذت شبّاكها معها إلى الفردوس. لم يعد بويب نهراً. صار الأطفال يعبرونه ذاهبين إلى مدارسهم الطينية حفاة. ستقول: “الواقع يتشبّه بالمجاز الشعري”، وتقول إنّ “وطناً مدّ على الأفق جناحه لم يتّسع لحمامة لم تحطّ على كتف الشاعر قبل أن يصطادها القنّاص”.

حين تركتهم في القطار نائمين كانوا أشبه بالموتى. مات الكثيرون كمداً غير أنّ أحداً لا يرغب في إحصاء عدد مَن يموتون كمداً في بلادي. ستقول “الشاعر الذي مات فيّ بعيداً عن بيته ودُفن في ليلة ممطرة يقف تمثاله على الخليج”. وهي فكرة عذراء لم ينتصر عليها رصاص حربين.

لكنّ الشاعر لم يكن عدوّاً.

أتذكّر أنّ عديّ صدّام حسين وقد أصبح المثقّف الأوّل، إضافة إلى كونه الرياضيّ الأوّل، كان قد أصدر قائمة بالأدباء العراقيين الأعداء. كنتُ واحداً منهم. بعد سنين أصدرت الميليشيات الإيرانية قائمة بأسماء الأعداء فرأيت اسمي فيها. ويوم فجّر معتوه نفسه في بوّابة جريدة الصباح الناطقة باسم سلطة الاحتلال الأميركي كتب أحدهم مقالاً افتتاحياً في الجريدة نفسها بعنوان “ثلاثة فجّروا مبنى صحيفة الصباح”، وكنت واحداً من أولئك الثلاثة.

مَن يهمس في أذن الشاعر كان على يقين من أنّ كلامه يذهب إلى الآخرة مباشرة

لو كانت وفيقة لا تزال حيّة لأغلقت شبّاكها وعادت إلى فراشها لتحلم بشاعر من غير عكّازين ولا ديوان كلّه غزل ولم يكن عدوّاً وكان اسمه بدر شاكر السيّاب.

أطفال بأحذية جنود قتلى

“يا درباً يصعد للربّ” لا يمكن أن نعدّ على الأصابع تلك الدروب التي تصعد إلى الربّ. ولأنّ المتاهة العراقية كانت مغلقة (لا تزال كذلك) فإنّ الملائكة لا تأتي مشياً. حتى عزرائيل يهبط بعد طيران متعب لينتقي ضحاياه. ستكون ليلة تحتاج فيها الملائكة إلى مصابيح لترى. كان الشاعر يسعل في المستشفى الأميري في الكويت فيما كان هناك مَن يلقي بالزهور على قبر وفيقة التي لا يزال شبّاكها مفتوحاً على الساحة.

مَن يهمس في أذن الشاعر كان على يقين من أنّ كلامه يذهب إلى الآخرة مباشرة. لم يعبر الأطفال بويب هذه المرّة حفاة، بل ارتدوا أحذية جنود قتلى يا بدر. كنّا تلالاً من القتلى، وكانت هناك تلال من السمك “الجري” في طريق القطار الصاعد إلى بغداد.

 

غموض الشعر في بلاد غامضة

كان فوزي كريم قد كتب قصيدة في رثاء حسين مردان يقول فيها: “هل تريد اسمه/ اسمه في الهويّة/ حسين مردان/ واسمه في الأزقّة/ حسين مردان/ واسمه في المقاهي الإله/ واسمه حين يعتزل الناس/ آه”. وكنّا نُسعد ونحن نسمعه يغنّي بعد كأسين من العرق: “يا حسين مردان كيف تركت الباب مفتوحاً”. يومها فكّرت في باب مفتوح يقف إلى جانب شبّاك وفيقة.

“قصائد عارية” كان عنوان كتاب مردان الأوّل الذي تمّ اعتقاله بسببه ومحاكمته، وصودرت نسخه بعد نشره عام 1949. لم يعش حسين مردان طويلاً (1927 ــ 1972).

كان إمبراطور قصيدة النثر التي لم يكن العراقيون قد عرفوها إلا بحياء. “الأزهار تورق داخل الصاعقة” هو عنوان كتابه الذي لم يؤلّفه بنفسه

أما كنّا في حاجة إلى شاعر ملعون على غرار بودلير؟

كان إمبراطور قصيدة النثر التي لم يكن العراقيون قد عرفوها إلا بحياء. “الأزهار تورق داخل الصاعقة” هو عنوان كتابه الذي لم يؤلّفه بنفسه، بل قام بجمع نصوصه فوزي كريم. يومها تعرّفنا من خلال ذلك الكتاب على روح الشعر التي لا تقيم قي العروض. كان فوزي كريم هو الأصغر من بين الموقّعين الأربعة على البيان الشعري الذي صدر عام 1969. سامي مهدي، خالد علي مصطفى، فاضل العزّاوي وفوزي كريم. وقد قيل يومها إنّ العزّاوي هو كاتب ذلك البيان التحريضي. في كلّ ما كتبه سامي مهدي لم يُشِر إلى ما يفنّد تلك النظرية. أمّا فوزي كريم فقد عبر عليها كما لو أنّها لا تعنيه. كان ذلك البيان شبّاكنا الذي انفتح على العالم على الرغم من أنّ أحداً منّا لم يفهم جملة منه. لقد فُرض علينا يومها عالم قائم على الغموض. وهو عالم مستلهَم ممّا كانت البلاد تمرّ به من غموض.

 

الحرب من حولنا

سيعبر الشعراء نهر اللغة حفاة فـ”سعيد حراق” لا يصنع إلّا أحذية نسائية. كما أنّ مكتبة مكنزي لا تستقبل إلّا مَن يجيدون القراءة باللغة الإنكليزية، و”أورزدي باك” إلّا رجالاً بربطات عنق ونساءً بمعاطف فرو. أمّا مقهى التجّار فإنّه لن يستقبل مثقوبي الجيوب. كنّا نقف على هامش خيال الواقع ما بين شبّاك وفيقة وباب حسين مردان، وكان فوزي كريم الذي مات في لندن عام 2019 هو الأكثر انتماء إلى ذلك الهامش على الرغم من أنّه كان داخل المشهد. لقد عاش حياة كاملة من أجل أن لا يكون مرئيّاً بعكس حسين مردان الذي كان يفاخر بصفة “الشاعر الملعون”.

إقرأ أيضاً: كمين ليليّ في وطن لا نهار فيه

هل كان إمبراطوراً حقيقياً للأدب كما كان يقول؟

مات قبل أن يقع السقف علينا. كنت أستمع وسط أبخرة الشاي الثقيل والدخّان إلى “الأوْلَه في الغرام” حين سقط سقف مقهى أمّ كلثوم وكان من خشب علينا. الملائكة كلّها حضرت يومها إلّا عزرائيل. كانت كوميديا سوداء أن ننتقل بخفّة إلى مقهى الزهاوي المجاور ونبدأ حواراتنا من حيث انتهينا. ذلك ما يُذكّر بمشهد عائلة تتناول طعام الغداء بعدما احترق بيتها. كانت الحرب قد أحرقت كلّ شيء من حولنا قبل أن يتسلّل الدخّان إلى أصابعنا.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

أمور خطيرة ليست للرّؤية ولا للكتابة؟

 هل هناك عصر إسرائيلي مقبل؟ لا يبدو ذلك صحيحاً على الرغم من تأكيدات نتنياهو. فالقضية الفلسطينية هي همٌّ عالمي وليست همّاً عربيّاً وحسب. أمّا الميليشيات…

الغرب والعرب: لرئيس يقود الثّلاثيّ لانتزاع وقف الحرب

يتصرّف العديد من عواصم القرار، في مقدَّمها واشنطن، على أنّ وقف النار في لبنان لم يحن وقته بعد. المداولات التي جرت في الأسابيع الماضية عزّزت…

نهاية يحيى: إنسانٌ “غيبيّ”… هَزَمَهُ العلم

لطالما كانت النهايات اختصاراً مكثّفاً للبدايات والخيارات التي يتّخذها كلّ واحدٍ منّا، خصوصاً نهايات الأشخاص الاستثنائيين. أولئك الذين يسرقون الأضواء، أو تسرقهم. كأن “ينتهي” مايكل…

كيف تعطّل الانتخابات الأميركيّة وقف إطلاق النّار في لبنان؟

لم يصدر عن واشنطن أو أيّ عاصمة غربية أيّ مواقف “جدّية” بإمكانها أن تشكّل عائقاً أمام  إسرائيل، بقيادة بنيامين نتنياهو، لوقف حربها في قطاع غزّة…