لماذا أُعجب عمر بن الخطاب بزهير ابن أبي سلمى؟

2020-08-20

لماذا أُعجب عمر بن الخطاب بزهير ابن أبي سلمى؟

مدة القراءة 6 د.


لزهير بن أبي سلمى، الشاعر الجاهلي، قول يقسّم فيه الحق إلى: يمين أو نفار أو جلاء. أعجب عمر بن الخطاب بهذا القول إعجاباً شديداً، فقال: “لو أدركتُ زهيراً لولّيته القضاء!”. فما الذي أعجب الخليفة عمر بهذا القول؟ لقد رأى عمر أنّ زهيراً في قوله استوفى جميع الطرق الممكنة لإظهار الحق، فهو إما يكون باليمين، أي “القسم”، وإما ان يكون بالمنافرة، فيرفع المتخاصمون أمرهم إلى من يحكم بينهم، وإما أن يكون بالجلاء، وهو انكشاف الأمر بالحجّة والدليل. 

إقرأ أيضاً: الأمل وتمثال المغترب في عداد المفقودين!

في هذا القول شيء مما انتهت إليه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، و”الحق” كما وجدت أنها أظهرته، يرتبط بالجلاء، ثالث السبل إلى التوصّل إلى الحقيقة بحسب زهير بن أبي سلمى. والجلاء جاء من خلال داتا الاتصالات، التي كشفت بحسب المحكمة الحجّة والدليل على توّرط مباشر لسليم عياش في عملية الاغتيال، فيما برّأت، أيضاً بالحجج والدلائل التي استندت إليها، المتهمين الثلاثة الآخرين. 

كثيرون كانوا يتوقّعون من المحكمة أن تناسب رغباتهم السياسية. أن توجّه أصابع الاتهام مباشرة إلى قيادة “حزب الله”، وتحميل التنظيم كله مسؤولية الجريمة على أساس أنّ سليم عياش لم يقتل رفيق الحريري بسبب دوافع شخصية، وأنّ المنطق يقول: إذا ثبت توّرط عياش في عملية اغتيال الحريري “عمداً وعن سابق إصرار”، أنه تلقى الأوامر من قيادته لتنفيذ الجريمة. لكن المنطق أيضاً يحتاج إلى حجّة ودليل، والدلائل التي توصّلت إليها المحكمة الدولية لا تكفي لتكوين اتهام مباشر لقيادة “حزب الله” بالتوّرط في الجريمة. عملت المحكمة، استناداً إلى ما بحوزتها من أدلّة، وهذا ما توصّلت إليه بعد سنوات من التحقيقات والجلسات العلنية. وقرارها ليس نهائياً بالمناسبة، إذ سيجري استئنافه من قبل محامي الدفاع أو محامي الإدّعاء. 

كلّ المحاكمات التي تشهدها محاكمنا، والتحقيقات التي تسبقها، والتي تجريها أجهزة أمنية على طريقة التشبيح الأمني، تحدث بلا أيّ احترام لأدنى الحقوق الإنسانية للمتهم

خضعت هذه المحكمة وقبلها لجان التحقيق الدولية التي سبقتها، طوال فترة عملها لمساءلة على المستوى الإعلامي من صحافيين ووسائل إعلام وسياسيين، إما لأهداف تصويبية، وإما لأهداف سياسية، وسال في نقدها أو مدحها حبر كثير في الصحف والمواقع الإلكترونية، وأعدّت مئات التقارير التلفزيونية والتحقيقات الاستقصائية والوثائقية للبحث في سلوك المحكمة ودورها والتصويب على أخطائها. وقد وقعت المحكمة وقبلها لجان التحقيق في مطبّات كثيرة، مع توجيه اصابع الإتهام في البداية إلى النظام السوري واتهامها في قضية الشهود الزور وسجن الضباط الأربعة، ثم تبرئتهم والإفراج عنهم، ثم تسريب أسماء شهود يفترض أنهم محميّون إلى وسائل الإعلام، ونشر أسمائهم وصورهم، ثم توجيه الاتهام إلى عناصر من “حزب الله”، وتسمية أربعة متهمين في القرار الظني، وصولاً إلى المحاكمات العلنية كلها، وجلسات الاستماع المطوّلة، وانتهاءً بالحكم الأخير. عشرات الموظفين، والمحامين، والقضاة، والمحقّقين، وفريق ادّعاء، وفرق دفاع عن المتهمين، وأدلّة، وتسجيلات، وشهود بالعشرات، ومتضرّرين… كلها مواد حاولت المحكمة عبرها أن تجلي الحقيقة، وتكشف خيوط الجريمة وتقدّم مرتكبيها إلى العدالة. 

وهذا النوع من السلوك القضائي “المحترف” (قد يتحفّظ كثيرون على هذه الكلمة) لم نعتد على مثله في لبنان. لم نشهد حتى بعد انتهاء الحرب أيّ محاكمة علنية قابلة للمساءلة، ولو الأخلاقية، من الرأي العام. كلّ المحاكمات التي تشهدها محاكمنا، والتحقيقات التي تسبقها، والتي تجريها أجهزة أمنية على طريقة التشبيح الأمني، تحدث بلا أيّ احترام لأدنى الحقوق الإنسانية للمتهم، وتجري المحاكمات في محاكم استثنائية، إما عسكرية، وإما تحال إلى المجلس العدلي القائم على درجة واحدة من التقاضي من دون القدرة على الاستئناف ولا التمييز. وتجري المحاكمات في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي قبل أن تصل إلى المحاكم. تجري هناك، وتطلق الأحكام، وأحياناً تنفّذ بآليات مجازية، فيُجلد المتهم قبل إثبات التهم عليه، وقبل أن ينال الحق الطبيعي بالحصول على محاكمة عادلة.

ألم يستحق جزّار الخيام عامر فاخوري محاكمة علنية عادلة، وهو شخص متهم بجرائم ضدّ الإنسانية، وتطال عشرات اللبنانيين الذين تعذّبوا في سجن الخيام؟

لم نعتد على تنظيم المحاكمات بالشكل الذي شهدناه مع هذه المحكمة الخاصة، ولا الحدّ الأدنى من الترتيب في الشكل، والشكل هنا مهمّ بقدر أهمية المضمون. ولهذا ربما لا يُسمح بالتصوير في محاكم لبنان المترهّلة، ولا بنقل وقائع المحاكمات التي تهمّ الرأي العام على الهواء، ليبقى الأمر محصوراً بعدد من الصحافيين الذين ينقلون من داخل قاعات المحاكم انطباعاتهم وآرائهم السياسية، بدل نقل الوقائع كما حدثت على قوس المحكمة. وقبل المحاكمات، تُترك التحقيقات للتسريبات الإعلامية التي تحاكم المتهمين، وتصدر الأحكام بحقهم قبل المثول امام قاضٍ مدني أو عسكري. وطبعاً لنا في قضية الممثّل زياد عيتاني مثالاً عن نوع التحقيقات، ونوع التسريبات، وطريقة لفلفة القضايا داخل المحاكم عبر التعتيم والتسويات. ألم يكن زياد عيتاني ليستحق محاكمة علنية تبرّؤه، وتدين من تسبّب بسجنه، وتعذيبه، واتهامه بالعمالة؟ 

ما حصل في اليومين الماضيين هو العكس تماماً، إذ صدر مرسوم “بمكافأة” من اخترعوا ومارسوا أسوأ أنواع التعذيب للحصول على “براءة علمية لاختراعهم”.

ألم يستحق جزّار الخيام عامر فاخوري محاكمة علنية عادلة، وهو شخص متهم بجرائم ضدّ الإنسانية، وتطال عشرات اللبنانيين الذين تعذّبوا في سجن الخيام؟ ألا نستحق أن نسمع شهادته بما حدث ودفاعه عن نفسه؟ ألا يستحق ضحاياه أن يواجهوه وجهاً لوجه في وجود قضاة ومحامين وأمام الرأي العام بدل تهريبه بطوّافة عسكرية في صفقة تبادل مشبوهة؟ ألا يستحق تفجير المرفأ محاكمة كبيرة في القضاء العادي نستمع فيها مباشرة على الهواء إلى الشهود، والمتهمين، والادّعاء، والدفاع، وتقديم الأدلة الحسية من داخل المحكمة، أمام الجمهور والضحايا، بدل إحالتها إلى محكمة استثنائية كالمجلس العدلي لا تنجو من تسييس ولفلفة. وتعيش، كما معظم محاكمنا، في العتمة بعيداً من الجلاء الذي تحدّث عنه زهير بن أبي سلمى؟ 

هل كنا نحتاج إلى محكمة دولية في قضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهل كنا لنسمع مطالبات بمحكمة دولية في قضية تفجير المرفأ لو أنّ لدينا قضاء عادلاً وعصرياً ونزيهاً؟ 

(إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً لكنّ الناس أنفسهم يظلمون).

 

 

إقرأ أيضاً

وعد بلفور: أوروبا تطرد يهودها… وأميركا توافق (4/2)

في قراءة نقدية حول الصهيونيّة والصهيونيّة المسيحيّة ومعاداة الساميّة، يقدّم الدكتور مصطفى علّوش خلاصة دراسة أعدّها، على أربع حلقات، ينشرها موقع “أساس”. في الحلقة الثانية…

عدوان 7 أيّار.. حان وقت العودة من الدّوحة

بعد أحداث 7 أيار 2008 بأسبوع واحد، شهدت منطقة المصيطبة في بيروت حراكاً مكثّفاً من قبل حركة أمل باتّجاه أهل المنطقة السُّنّة، وذلك بهدف معالجة…

غزّة تشطر تركيا إلى شطرين

تأخّر رجب طيب إردوغان ستّة أشهر قبل أن يحسم رأيه في قضية غزة. حدث “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأحدث معه الارتباك الإردوغانيّ…

“منظومة الانتهاك”

لا عُذر لمن فوجئ. أين المفاجأة؟ 1 + 1 = 2. معادلة بسيطة. كلّ ما نعيشه منذ 20 عاماً في هذا البلد لا بدّ أن…