بقلم حنين غدّار في “فورين بوليسي” – 11 آب
إذا تركت الولايات المتحدة فرنسا وهي تستلم زمام المبادرة، فسيصاب الشعب اللبناني بمزيد من الشلل السياسي مع إصلاحات تجميلية، وبقاء سيطرة حزب الله على مؤسسات الدولة.
يمثّل الانفجار الهائل في بيروت الثلاثاء الماضي، والذي أسفر عن مقتل 160 شخصًا في الأقل، وتشريد مئات الآلاف، لحظة سياسية كما هو حال انفجار آخر وقع قبل 15 عامًا: وهو الذي أودى بحياة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.
إقرأ أيضاً: كتاب بولتون: أوباما حارب الإرهاب السنّي بالإرهاب الشيعي!
وكما هو الحال الآن، سرعان ما تحوّل الحزن إلى غضب. في عام 2005، انتفض اللبنانيون الغاضبون للمطالبة بتغيير سياسي جذري، وليس بإصلاحات تجميلية، وهم يخرجون إلى الشوارع مرة أخرى اليوم. لكن هناك فرق رئيسي. ففي عام 2005، كان البيت الأبيض راغباً كما قادراً على لعب دور ذكي وفعّال في نهاية المطاف في مساعدة النشطاء المحليين على ترجمة المشاعر الخام، في تنظيم انتخابات جديدة، وتشكيل حكومة جديدة. ومع ذلك، فإنّ واشنطن تكتفي اليوم بشغل مقعد خلفي وراء رئيس فرنسي نشيط، ولكنه متناقض – وهو ترتيب لن ينتج عنه – بالتأكيد – التغيير الذي يتوق إليه معظم اللبنانيين.
يضغط الفرنسيون من أجل عقد المصالحة بين جميع الأطراف، مع تشكيل نوع من حكومة وحدة وطنية من شأنها فقط الحفاظ على الوضع الراهن، وتقديم كبش فداء – مثل حكومة حسان دياب، التي استقالت بشكل جماعي – لتهدئة الشوارع. ومع ذلك، يحتاج اللبنانيون إلى حلّ أكثر جذرية. فلن تؤدّي استقالة الحكومة إلى تغيير النظام طالما حافظت النخب السياسية نفسها، على سلطتها، وعلى سيطرتها على المؤسسات الأخرى.
كان لبنان بالفعل في خضمّ أزمة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة، عندما وقع الانفجاران المزدوجان. إنها أزمة شديدة لدرجة أنها بدأت بالفعل بالتسبّب بتضخّم نقدي مفرط، وبجوع في بلد اجتاز 15 عامًا من الحرب الأهلية دون التعرّض لمثل هذا الدمار الاقتصادي. وهذه الأزمة مستمرة بسبب جشع الطبقة السياسية التي ترفض حتى أكثر الإصلاحات تواضعًا، وهي التي يطالب بها صندوق النقد الدولي من أجل تقديم العون المالي للبنان.
إذا كانت الحكومة اللبنانية تطلب مساعدة دولية، فعليها قبول تحقيق دولي. يمكن للولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة فيما يتعلّق بهاتين المسألتين السياسيتين أثناء التنسيق مع الفرنسيين بشأن مبادرة إنسانية
يبدو أنّ فرنسا تتولّى زمام المبادرة في الوقت الحالي، كما يتضح من الزيارة الرمزية التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت الأسبوع الماضي، تلتها خطوته السريعة لبدء اجتماع المانحين الدوليين يوم الأحد. وقد تعهّدت البلدان المشاركة بتقديم أكثر من 250 مليون يورو (حوالي 300 مليون دولار).
وفي حين تحذو دول أخرى حذو فرنسا، يجدر بنا أن نأخذ في الاعتبار أمرين: أولاً، لم يكن انفجار ميناء بيروت كارثة طبيعية، ولا ينبغي التعامل معه على هذا الأساس. لذلك، بقدر ما تعتبر المساعدات الإنسانية ضرورية لمساعدة اللبنانيين من أجل النهوض مجدّداً، فإن المساءلة أكثر أهمية على المدى الطويل، وهذا بالضبط ما يدعو إليه المحتجّون اللبنانيون في الشوارع.
ثانياً، لم يعد اللبنانيون يثقون في حكومتهم، وعدم كفايتها هو أحد الأسباب المحتملة للانفجار. لذلك يجب ألّا تمرّ المساعدة بأيّ حال من الأحوال من خلال المؤسسات الحكومية أو المنظمات السياسية والجمعيات الخيرية. إنّ عدداً من المنظمات غير الحكومية المحلّية والدولية – مثل الصليب الأحمر اللبناني – تقدّم بالفعل الإغاثة والمساعدة ميدانياً منذ اليوم الأول. لقد كانوا أول المستجيبين، ولديهم بنية تحتية جيدة، ومعرفة بالوضع ميدانياً. إذا مرّت المساعدات من خلال هذه المنظمات، فإن احتمال وصولها إلى المستفيدين المناسبين يكون أعلى بكثير.
وإذا كانت الحكومة اللبنانية تطلب مساعدة دولية، فعليها قبول تحقيق دولي. يمكن للولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة فيما يتعلّق بهاتين المسألتين السياسيتين أثناء التنسيق مع الفرنسيين بشأن مبادرة إنسانية.
إنّ فرنسا تحاول تحقيق توازن صعب: من جهة، حشد المجتمع الدولي لدعم لبنان، ومن جهة أخرى، ممارسة الضغط على القادة السياسيين اللبنانيين لتنفيذ الإصلاحات. وهذا من أجل إرسال المزيد من المساعدات.
لكنّ ماكرون أوضح في بيانه الصحفي في ختام زيارته لبيروت أنه لن يصوغ حلاً سياسيًا للبنان، وأنّ الأمر متروك للبنانيين لصياغته، مما يتيح الفرصة للنخبة السياسية تقديم تنازلات كما للحركة الاحتجاجية تنظيم صفوفها، والاستعداد لخوض الانتخابات المقبلة.
لكن النخبة اللبنانية من مكانها لن تتزحزح من موقعها دون ضغوط، والسلطات لن تتردّد في استخدام العنف لقمع الاحتجاجات. بالنسبة للعديد من اللبنانيين، هذه هي وضعية الاستعصاء (Catch-22) التي لا يمكن تجاوزها إلا إذا تعرّضت السلطات لضغوط كما حدث في عام 2005 – من خلال وجود أميركي قوي في المنطقة، وبثّ رسالة واضحة جدًا من الولايات المتحدة إلى السلطات اللبنانية – عندما أُجبرت الحكومة آنذاك على الاستقالة، ونُظّمت انتخابات مبكرة. للأسف ، ليس هناك ما يشير إلى مبادرة دولية في هذا الاتجاه.
وحده التحقيق الدولي هو الذي سيحقّق المساءلة والعدالة الحقيقية. وقد رفض الرئيس اللبناني ميشال عون هذا الاقتراح كما كان متوقعاَ. لا يقتصر الأمر على قيام فريق تحقيق دولي بمحاسبة الكثيرين في المؤسسة السياسية، بل يمكنه أيضًا الكشف عن سيطرة حزب الله، وحضوره، ومرافق التخزين التي يستعملها في ميناء المدينة – حتى لو لم يكن للحزب علاقة بـ 2750 طنًا متريًا من نيترات الأمونيوم المخزّنة في الميناء.
على الرغم من أنه من المبكر معرفة ما إذا كانت نيترات الأمونيوم تعود إلى حزب الله، إلا أنّ هناك العديد من العوامل التي تشير إلى مسؤولية الحزب. فهو يسيطر على جزء كبير من الميناء، بما في ذلك المنطقة التي وقع فيها الانفجار، وحيث خزّن حزب الله صواريخه بشكل مؤقت منذ عام 2008 تقريبًاً.
لم يتغيّر الكثير في العقود الأربعة الماضية. ففقد ورد في تقرير وكالة المخابرات المركزية عام 1987 عن موانئ لبنان، أنّ “معظم العمليات في موانئ لبنان غير قانونية وخارجة عن متناول الحكومة”. وعلى الرغم من أنّ التقرير ركّز معاً على الفصائل الفلسطين، أفادت حزب الله الذي يبدو أنه ورث سيطرة النظام السوري والفصائل الفلسطينية على موانئ لبنان.
هناك العديد من أسباب القوة الصارمة لواشنطن للانخراط بشكل أعمق في لبنان في الوقت الحالي: تلميع مصداقية قيادتها الإقليمية، والتغلّب على الصينيين والروس، وضمان خطوط الإمداد إلى سوريا
وليس سرّاً أنّ حزب الله له حق الوصول، والسيطرة على جميع نقاط الدخول إلى لبنان: أي الحدود السورية اللبنانية، والمطار، والميناء. كما أنه ليس سرّاً أن حزب الله يهرّب أسلحة عبر الميناء لتخزينها في لبنان، ونقلها إلى سوريا.
ولا يخفى على أحد أن حزب الله وحلفاءه وضعوا الموالين لهم في المواقع الحساسة في الميناء. في الواقع، وضعت وزارة الخزانة الأمريكية المسؤول الأمني ??في حزب الله وفيق صفا في تموز 2019، في لائحة المعقوبات بسبب عمله في هذا الإطار، إذ قالت وزارة الخزانة إنّ صفا بصفته رئيس الجهاز الأمني ??لحزب الله “استغل موانئ لبنان والمعابر الحدودية لتهريب الممنوعات وتسهيل السفر لأفراد” تنفيذاً لإرادة الحزب. ووفقًا للتقرير، فإنّ حزب الله “استغل نفوذ صفا لتسهيل مرور المواد، بما في ذلك المخدرات والأسلحة غير المشروعة، إلى ميناء بيروت، ولبنان”، و”قام على وجه التحديد بتوجيه بعض الشحنات عبر صفا لتجنّب التدقيق”.
هناك العديد من الأسئلة التي يمكن أن يجيب عليها تحقيق محايد: لماذا تمّ إبعاد فرق الإنقاذ الهولندية والفرنسية عن الميناء لساعات في اليوم الثاني بعد الانفجار؟ لماذا تمّ تخزين نيترات الأمونيوم في الميناء؟ من تركها هناك لمدة ست سنوات رغم التحذير المتكرّر من مخاطرها؟ ما الذي تسبّب بالضبط في الانفجار؟ لن تتمكّن السلطات اللبنانية من الإجابة على هذه الأسئلة بمفردها.
في عام 2005، سارع عدد من أحزاب المعارضة اللبنانية آنذاك إلى اتهام نظام بشار الأسد وحزب الله باغتيال الحريري. في ذلك الوقت، اتهم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إسرائيل بارتكاب الاغتيال، ولم يتردّد في شكر النظام السوري بعد انسحاب جيشها من لبنان، في لفتة فُهمت على أنها تحدٍّ للمجتمع الدولي، وللمعارضة المحلية.
بعد خمسة عشر عاماً، باتت المحكمة الخاصة بلبنان مستعدة للنطق بحكمها في 18 آب ضدّ أربعة من أعضاء حزب الله. ويكاد يكون من المؤكد أنّ المتهمين بقتل الحريري سيُدانون في غضون أيام قليلة. وكان ذلك ممكنًا فقط لأنّ المجتمع الدولي ضغط من أجل تحقيق دولي، وساعد في إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان. مع تطوّر الأحداث في بيروت، تظهر فرصة مماثلة اليوم.
من الواضح أنّ حزب الله قلق. واتهم الحزب مؤسسات الدولة وموظّفيها بانفجار الميناء، هذه المرة، وليس إسرائيل. وبناءً على ذلك، يبدو أنّ حزب الله والحكومة اللبنانية التابعة له قد قرّرا أنه من أجل النجاة، يجب التضحية ببعض الموظفين، بما في ذلك مدير عام الجمارك بدري ضاهر، الذي عيّنه جبران باسيل الحليف الرئيسي لحزب الله في البرلمان. يجب على إدارة ترامب الاستفادة من هذا الوضع. لقد ركّزت واشنطن في الآونة الأخيرة على ممارسة أقصى قدر من الضغط على إيران. لذلك، سيكون من المنطقي أن ندرك أنّ فظاعة انفجار بيروت والمأساة الناتجة عنه، توفّر فرصة لقطع أشرعة الوكيل الإقليمي الأكثر فعالية لإيران، حزب الله.
هناك العديد من أسباب القوة الصارمة لواشنطن للانخراط بشكل أعمق في لبنان في الوقت الحالي: تلميع مصداقية قيادتها الإقليمية، والتغلّب على الصينيين والروس، وضمان خطوط الإمداد إلى سوريا. لكنّ الاستفادة من هذه اللحظة لمنح اللبنانيين فرصة لإنشاء نظام سياسي جديد يتمّ فيه تقليص حجم حزب الله، هو بالتأكيد على رأس القائمة.
هناك العديد من الأشياء التي يمكن للحكومة الأميركية القيام بها لتحقيق هذا الهدف.
أولاً، يجب أن تدرك أنّ هذه هي لحظة 2005. إنّ تحالف 14 آذار المناهض لحزب الله، ليس بديلاً لأن الفساد موجود في كلّ من التحالفين 8 و14 آذار، ومطالب المحتجّين اللبنانيين – بشعارهم الرئيسي “كلن يعني كلن”، تستهدف كلّ سياسي طائفي وفاسد بغضّ النظر عن موقفه السياسي من حزب الله.
ويطالب الشعب اللبناني باستبدال كامل للنظام – نوع جديد من اتفاق الطائف – الاتفاق الذي تمّ التفاوض عليه في المملكة العربية السعودية في سبتمبر 1989 لتوفير “الأساس لإنهاء الحرب الأهليةغ والعودة إلى الحياة السياسية العادية في لبنان”. اليوم مأساة لبنان، تتطلّب اتفاقاً جديداً يؤدّي إلى تغيير حقيقي وانهاء النظام الطائفي.
ثانيًا، يجب على واشنطن التأكد من أنّ المساعدات الإنسانية لا تمرّ عبر أيّ مؤسسة من مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش اللبناني. لقد كانت الولايات المتحدة تساند الجيش اللبناني منذ عام 2006 لتحقيق أهداف أمنية واضحة، لكن الجيش اللبناني بدوره استخدم القوة الوحشية ضد المتظاهرين خلال الاحتجاجات الأخيرة. يمكن أن تستمرّ المساعدة الأمنية، طالما أنّ الجيش اللبناني لا يستخدمها لقمع المتظاهرين، لكن المساعدة الإنسانية يجب أن تمرّ عبر المنظّمات غير الحكومية المحلّية والدولية التي تقوم بعمل أفضل بكثير في جهود الإغاثة.
ما يحتاجه لبنان هو بداية جديدة – عقد سياسي واجتماعي جديد يقضي على الطائفية، ويؤسس المساءلة من خلال الإصلاحات القضائية. لا يمكن أن يحدث هذا إلا من خلال قانون انتخابي جديد يستلزم التمثيل الصحيح وإنهاء النظام الطائفي. وكذلك من خلال انتخابات مبكرة ينتج عنها برلمان جديد، وحكومة جديدة، ورئيس جديد
ثالثًا، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الضغط من أجل تحقيق مستقل وشفاف في انفجار ميناء لبنان. إذا كانت السياسة الأميركية هي احتواء إيران ووكلائها، فهذه فرصة ذهبية. إنّ تحميل حزب الله مسؤولية، ربما قتل مئات اللبنانيين وجرح الآلاف قد يدفع الشعب اللبناني – والرأي العام الغربي بشكل عام – إلى رفض قبضة حزب الله على البلاد.
رابعًاً، يجب إجراء تحقيق في استخدام الجيش اللبناني للعنف ضد المتظاهرين. حدثت ثورة الأرز عام 2005 لأنّ قيادة الجيش اتخذت قراراً بحماية المتظاهرين الذين كانوا سلميين. يبدو أنّ الجيش قرّر اليوم حماية السلطات ومعاقبة الضحايا. تحتاج حكومة الولايات المتحدة إلى بثّ رسالة واضحة إلى الجيش اللبناني مفادها أنه إذا لم يحمِ المتظاهرين كما فعل في عام 2005، فستتوقف المساعدة.
أخيرًا، يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة في الضغط من أجل تغيير حقيقي بدلاً من اتباع نهج ماكرون. قد يكون الرئيس الفرنسي راضياً، عن حكومة وحدة وطنية. إلا أنّ هذه الفكرة تذكّر اللبنانيين بأول حكومة وحدة وطنية فُرضت على اللبنانيين بعد أحداث أيار 2008.
في ذلك الوقت، سيطر حزب الله على بيروت وجبال الدروز، واستخدم أسلحته ضدّ الشعب اللبناني، ودفع تحالف 14 آذار للتخلّي بشكل فعّال عن السلطة لحزب الله من خلال حكومة الوحدة الوطنية – مما أطلق مساراً سمح للحزب بالسيطرة على معظم المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية. حكومة وحدة وطنية أخرى اليوم، ستحافظ على سيطرة حزب الله على مؤسسات الدولة.
ما يحتاجه لبنان هو بداية جديدة – عقد سياسي واجتماعي جديد يقضي على الطائفية، ويؤسس المساءلة من خلال الإصلاحات القضائية. لا يمكن أن يحدث هذا إلا من خلال قانون انتخابي جديد يستلزم التمثيل الصحيح وإنهاء النظام الطائفي. وكذلك من خلال انتخابات مبكرة ينتج عنها برلمان جديد، وحكومة جديدة، ورئيس جديد.
كما يحتاج لبنان إلى الحقيقة – والمساءلة التي تليها – لتجاوز هذه المأساة.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا