بيروت لا تشطب ذاتها عن ضفاف المتوسط

2020-08-05

بيروت لا تشطب ذاتها عن ضفاف المتوسط

مدة القراءة 3 د.


بالأمس أطفأت بيروت قناديلها. فقدت بحرها. مرفأها. موطئ قدمها. حضورها الآسر على ضفاف المتوسط منذ فجر التاريخ. فقدت رحابتها وحجر زاويتها ويدها الغائرة في ذاك البحر، وذاك المهد الذي أردفها وأردفته منذ أول بحّار ركب الموج الأزرق، وحتى آخر حرف نُقش في تاريخ الحضارات والأمم.

إنّه البحر الصغير الذي تتجمّع حوله الديانات والأساطير والعقل والقارات الثلاث. في امتداده، قامت فينيقيا واليونان وروما وتركيا العثمانية. وعبره، امتدّت الإمبراطورية العربيه، وتاه به كولومبوس حتى وصل إلى العالم الجديد. هذا ما يقوله سمير عطاالله تعقيبًا على رسالة وصلته من نائب رئيس الوزراء اليوغوسلافي ميلوفان دجيلاس يقول فيها إنه زار بيروت في الخمسينيات، فوجد أنّ البحر فيها هو أكثر زرقة منه في أيّ مكان على المتوسط.

إقرأ أيضاً: لغز العنبر رقم 12

هاكم بيروت اليوم وهي تنفصل لأول مرة منذ الفينيقيين عن بحرها الباكي الحزين. تذوي أمام أعيننا كشمعة طالما أضاءت ليلنا الحالك. من سواحل الهند إلى شواطئ المغرب. ومن كلّ عواصم وحواضر العرب إلى كلّ قضية، وكلّ حقيقة، وكلّ مظلوم، وكلّ مقهور. من القصائد التي تدلّت فوق أغصانها كعناقيد الذهب. من الأوكسجين المجاني الذي لم تبخل يومًا بتوزيعه حتى قبل أن تلتقط أنفاسها. صارت بيروت البوصلة، والقلب، والشرفة، والدرّة المكتنزة والممتلئة بذاتها. وعادة العواصم أن تستريح، لكن بيروت هذه لا تهدأ. جرّبت كلّ شيء. كل شيء. وما كان ينقصها في لحظة انكسارها التراجيدي إلا أن تحتضن بجسدها المُدمى عصفًا بحجم قنبلة نووية.

ذاك هو قدرنا وقدر بيروت. لا يلتئم لنا جرح إلا ليُفتح آخر. صرنا نخاف من الغد، ولا نتطلّع اليه. فقدنا رشاقتنا، وسحرنا، ونجاحنا، وسرّنا العابر للجغرافيا والخرائط والأجيال

بيروت أيضًا لا تموت. ستنفض عنها الردم والغبار. وستسلك مجددًا درب جلجلتها المفروش بالقهر، والعذابات، والمجبول بالحديد والنار. صودف قبل أيام قليلة أن استبدل الأوغاد بعضًا من كلمات بديعة كتبها نزار قباني كرمى لعيون المدينة التي عشقتها وعشقته. هو يعرف أنها زهرة لوز في نيسان، ونحن ندرك تمامًا أنها كذلك، لكن ثمّة من يخاف ثورتها وحزنها وصوتها، فشاء أن يحبسها في زجاجة أوهامه وأحقاده وشذوذ آفاقه. لكن بيروت الصائمة والموجوعة منذ دهور، ستقول حتمًا كلمتها، وستقوم قطعًا من تحت الركام، وسيكون صوتها مدويًا بحجم العاصفة التي أخفت وجهها البهيّ تحت جبل من الغبار.

ذاك هو قدرنا، وقدر بيروت. لا يلتئم لنا جرح إلا ليُفتح آخر. صرنا نخاف من الغد، ولا نتطلّع اليه. فقدنا رشاقتنا، وسحرنا، ونجاحنا، وسرّنا العابر للجغرافيا والخرائط والأجيال. صار حالنا كحالها الآن، كومة من ركام، وجثث، وروائح موت، ويأس، وهزائم. لكن بيروت علّمتنا اليقين. علّمتنا أن نقاتل، ونناضل، ونصبر، ونقفز، ونهرول، ونحبو، ونزحف بشجاعة نحو صناعة أقدارنا. ممنوعٌ أن نستسلم. ممنوع أن نرضخ. ممنوع أن نفقد الأمل. لنبدأ من حيث البدايات. ومن حيث نعيد لها وهجها، وحضورها، ورسالتها كواحدة من أشهى عواصم الحب والحضارة والحياة، لا منصة لتصدير الكراهية، والخراب، والموت.

تمضي بيروت بعيدًا في جلد ذاتها. تشطب حضورها الهائل على ضفاف المتوسط وتنفصل عن بحرها، وامتدادها، ووظيفتها، وأحلامها المفتوحة. وتترك لنا أن نفهم عميق قلقها، وحزنها، وأن ندرك بأن بيروت بلا بحر هي مدينة المتقوقعين، والبؤساء، والأشقياء، وصغار القلوب والنفوس والأحلام، وأنها مع بحرها تصير عاصمة الدنيا.

الكرة باتت الآن في ملعبنا، وعلينا سريعًا أن نختار، أي بيروت هي تلك التي نريد؟

إقرأ أيضاً

اغتيال عدنان البرش.. في الموت لا مكان لصنّاع الحياة

أرادوا الموت وأراد الحياة. اختار المشافي وأسرّتها. واختاروا له السجون وزنازينها. عالج عدنان البرش في غزة الذين تفصلهم عن الموت خطوة، فعذّبوه حتى فارق الحياة….

هدنة غزة لرئاسة أميركا والـ1701 لرئاسة لبنان؟

كلّ شيء يتوقّف على الهدنة في غزة، على الرغم من أنّها إذا نجحت قد تكون مؤقّتة. لكنّ الآمال معلّقة على الإفادة من مهلتها لوقف الحرب….

المعركة الأشرس بعد غزّة

سواء نجحت إسرائيل في تفكيك بنية المقاومة المسلّحة في قطاع غزة بكلّ فصائلها أم لم تنجح، بمعركة فاصلة في رفح أم من دونها، فإنّ الدمار…

أميركا تقتل “قِيَمها” بيدها

عند الحديث عن الجامعة لا يقال مقرّ الجامعة أو مبناها، بل يقال حرمها، لأنّ لهذا المكان التربوي والتعليمي احتراماً خاصّاً ومكانة خاصة تماثل مكانة دور…